لايزال الرجل الكبير يستيقظ عند الخامسة والنصف صباحاً كما كان يفعل خلال الثلاثة العقود من حكمه لهذا البلد الصاخب المليئ بالعنف.
يمارس بعض التمارين الرياضية لاستعادة عافيته بعد انفجار 2011 الذي كاد يقتله.
يقرأ ُ الصحف ثم يجلس ُ في خيمةٍ وسط فِناء قصره المحاط بجدارٍ سامق ينافس القصر الرئاسي في علوه.
ثم يبدأ في استقبال سيلاً متدفقاً لا ينتهي من الزوار الذين يعاملونه كأنه الرجل الأعظم في اليمن.
علي عبدالله صالح الشخصية النادرة في العالم العربي او في أي مكان آخر هو الحاكم المطلق الذي لا يزال في بلده ولا يمسـسه أذى رغم التمرد الشعبي الذي أطاح به.
السيد صالح ذو الـ 71، رجل دولةٍ متقاعد اسمياً ، هو الآن يكتب مذكراته.
وقد منح حصانةً من المحاكمة وفق الاتفاقية التي ازاحته من السلطة في عام 2012.
غير ان كثيراً من اعدائه يقولون انه لا يزال يلعب دوراً كبيراً مسموما هنا.
يتهمونه بالترتيب لهجمات إرهابية وبعض الاغتيالات التي طالت اكثر من 150 ضابطاً رفيعاً من الجيش والأمن وشخصيات سياسية خلال السنتين الماضيتين.
حتى الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي - الذي كان نائباً له لمدة 18 عشر سنة - اتهمه بالتخطيط للهجمات على النفط وخطوط الطاقة التي تضر بإقتصاد البلد وتزيد من ضعف كفاءة الإدارة الجديدة.
واتهم دبلوماسيون في الامم المتحدة "عناصر من النظام السابق" بالعرقلة وحتى أنهم لمحوا الى فرض عقوبات محتملة على الرئيس السابق.
وقال السيد صالح وهو يتكلم بصوت أجش مع كبرياء وتجهم تميز وجهه دون ان يكترث أو يبدي أي نوع من المشاعر عندما تكررت عليه هذه الاتهامات.
قال في مقابلة اجريت في ساحة مترامية الاطراف في قصرة "هؤلاء الناس غير واثقين بسلطتهم ولا يزالون يعتبرون انفسهم موظفين عند علي عبدالله صالح."
"هم يعتقدون ان أي شيء يحدث في البلد - كبير أو صغير - لابد ان يكون علي عبدالله صالح هو من فعله."
وهو دائماً ما يتحدث عن نفسه بالقول : علي عبدالله صالح.
المساعدون من حوله يقدمون الأوراق والهواتف ( للتوقيع والرد على مكالمات هامة) والمهنئون والشخصيات السياسية يطوفون على مقربةٍ من خيمته وسط الساحة الواسعة ينتظرون أدوارهم.
ورجل يقف وبيده مظلة ينتظرُ وهو على اتم الاستعداد لحماية السيد صالح من حرارة الشمس كلما أراد ان يخطو خطوةً خارج ظل الخيمة.
ويقول دبلوماسيون ومحللون انه مستحيل معرفة ما إذا كانت التهم ضد صالح صحيحة أم لا، فالتحقيقات في حوادث العنف السياسي في اليمن غير كافية ولا تفضي الى شيء ، والحكومة لا زالت غارقة ً في الفساد.
وهناك متهمون محتملون آخرون كثر ومنهم الفرع الإقليمي للقاعدة مع أنها كبش الفداء السهل.
وليس هناك من شك ان السيد صالح لا يزال يمتلك كثيراً من أسباب السلطة ويستخدم نفوذه.
فهو لا يزالُ القائد الأول لحزب الرئيس هادي نفسه ، الأمر الذي شكل مصدر إزعاج وخيبة امل لهادي.
ولا يزال الكثير في الجيش يدينون له بالولاء . قصره وسط العاصمة محاط بالجنود والمتاريس والحواجز الخرسانية من كل الاتجاهات.
السيد صالح الذي جاء من أسرة فلاحية فقيرة لم ينل من التعليم إلا قليلاً ، لكنه ترقى في الرتب العسكرية بعد ان أطاح ضباط يمنيون بالنظام الملكي الديني في عام 1962.
وعندما أتى الى السلطة في عام 1978 قليلٌ من الناس هم من توقع انه سينجو بعد ان تم اغتيال رئيسين سابقين له.
ولكنه ظل يناور خصومة بدهاء وحنكة ، وفي عام 1990 وحد الشمال مع جنوب اليمن الذي كان دولة ً عميلة ً مع الاتحاد السوفيتي السابق.
وعندما بدأت الانتفاضات العربية في 2010 ، زلزلت اليمن موجات من العنف والسخط والتمرد مما أدى الى ضعف قبضة صالح.
ومؤخراً لوح صالح الى تحالف المتشابهين سياسياً مع الحوثي وهي مجموعة متمردة في أقصى الشمال الغربي التي خاض معها صالح حروباً مريرة متقطعة لسنين.
وقد نما الحوثيون وأصبحوا حركة سياسية وطنية منذ 2011 وهذا النمو والتمدد سببه كراهية الناس لحزب الإصلاح الذي يضمُ الأخوان المسلمون.
والسيد صالح يكره كليهما غير انه يمتعض من الرئيس هادي الذي يستخف به من وقت الى آخر.
وقليل هم من يتهمون السيد صالح بالتخطيط للعودة الى السلطة بنفسه.
ومع ان ذهنه يبدو صافياً بما فيه الكفاية غير انه يعاني من الجروح الخطيرة التي اصابتة في انفجار 2011 الذي قتل 6 من الحراس وشوة آخرين (ولا يزال الى الآن غير معروف من نفذ ذلك).
يتحرك صالح ويتوقف ببطء ويبدو على جلد كفية ووجهه آثار الحروق.
وخضع لأحدث عملية في يناير الماضي ضمن سلسة من العمليات الجراحية المختلفة.
ويقول عدد من المنتقدين انه يتوق الى تمهيد الطريق لأسرته . ففي السنين التي سبقت سقوطه بدا السيد صالح يُلمِع نجله احمد كما كان يفعل الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي اعد ابنه جمال لخلافته . وبعد ان أطيح بالسيد مبارك وضع ابنه جمال في السجن بتهم فساد.
ونصب السيد صالح العشرات من أقاربه الآخرين في مواقع هامة خصوصاً في الجيش والأمن.
معظم هؤلاء اجبروا الآن على الخروج من مناصبهم غير ان احدا منهم لم يحاكم.
وعندما سئل السيد صالح عن هذا الطموح لنجله ارتفع صوته المبحوح في اعتراض قائلاً "لم أرغب له بهذا وأنا في السلطة فكيف الآن."
ومضى في سخريته من خصومة الذين لا يزالون - كما يبدو - يركزون عليه وقال "لا يكفيهم أني تركت السلطة هم يعتقدون أنهم لن يحكموا اليمن حتى أغادر البلد أو أموت."
إنه من الممكن جداً ان يرث مكانة صالح في النهاية ابنه أو أبناء أخيه.
فكثيرٌ من اليمنيين يتحدثون بإعجاب لافت بالمشير عبدة الفتاح السيسي القائد العسكري المصري الذي أطاح بالرئيس المنتخب محمد مرسي في الصيف الماضي وهو الآن يستعد ليصبح الرئيس القادم لـ مصر. ولم يظهر أي توافق في تعاملاته مع الأخوان المسلمين واستخدم القوة المفرطة لإسكات اعضاء جماعة الإخوان واعلنها منظمة إرهابية.
ورغم الرغبات الديمقراطية الجامحة التي أثارتها الانتفاضة الشعبية في اليمن في عام 2011 إلا ان كثيراً من الناس هنا محبطون من الفوضى السياسية وينظرون للرئيس هادي كرئيس متردد وغير قاد على اتخاذ القرارات .
ويحظى الحزب الإسلامي الأكبر في اليمن (الإصلاح) بشعبية واسعة - غير انه مثل الإخوان المسلمين في مصر- لا يحضى بثقة الكثير من اليمنيين بسبب تحالفاته السابقة في عهد صالح.
ونظرياً ، يداوي اليمن جراحاته السياسية من خلال عملية توافقية وليس العودة الى مجموعة من الناس الأقوياء الذين يمكن هزيمتهم بسهولة .
اختــــــتم في الشهر الماضي مؤتمر الحوار الوطني وهو عبارة عن تمرين استمر 10 اشهر للمعالجة السياسية التي دعت وتوسطت لها الامم المتحدة بموجب الاتفاقية التي ازاحت السيد صالح من السلطة.
وشمل المؤتمر 565 شخصاً يمثلون جميع أحزاب ومجموعات اليمن القبلية والدينية والسياسية ورجال المال والأعمال والمرأة "وشباب الثورة" .
وعندما بدأت المحادثات في فندق موفنبيك الذي يقع على تلة تشرف على صنعاء ، سقط الجزء الآخر من اليمنيين خارج الحوار في الفوضى.
اندلعت التمردات القبلية في الجنوب وزادت القاعدة من وتيرة هجماتها رغم استمرار الحملة الأمريكية بالطائرات بدون طيار.
وفي ديسمبر قتل هجوم على وزارة الدفاع 52 شخصاً ما جعل يمنيين كثر يستنتجون ان القاعدة قد اخترقت الجيش والأمن.
وقدم السيد صالح إشادة باردة بالحوار الوطني قائلاً "كان هناك جهد طيب ، وإذا وجدت الإرادة السياسية اعتقد انه سيكون هناك بعض التنفيذ."
وعندما سئل عن الانتفاضات العربية في 2011 عاد السيد صالح الى الموضوع الذي ساعد في بقائه وبقاء حكام عرب آخرين في السلطة لمدةٍ طويلة: الخوف من البديل.
وقال صالح "الربيع العربي ولد ميتاً ، وأتى في ظل ظروف صعبة في الشرق الأوسط ، واصبح سلاحاً في يد الحركات الإسلامية."
يرحب الموقع بآراء الزوار وتعليقاتهم حول هذه المادة تحديداً، دون الخروج عن موضوع المادة، كما نرجو منكم عدم استعمال ألفاظ خارجة عن حدود اللياقة حتي يتم نشر التعليق، وننوه أن التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الموقع.