كشفت انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل
عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة
فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية لكشف الظلم والفساد
أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع
اليوم الثلاثاء وبعد نشر الاوراق لاستدعاء المحكمة لهم عام2014
عاجل اليوم محكمة الاموال العامة برئاسة القاضية سوسن الحوثي تحاكم دغسان وعدد من التجار
مع الوثائق عملا بحق الرد
دغسان يوضح ويتحدى الاثبات حول تهمة المبيدات بعد توضيح الحكومة اقرأ. تفاصيل التحدي
اقرا المبالغ التي اعيدت بعد القبض عليهم ومحاكمتهم
الشرطة الهندية تعيد اموال سرقتها عصابة ايرانية من مواطنيين يمنيين 
لو قالها غيره لتم سجنه فورا منها سأرفض (دغسنة) الفاسدين وإن جاء بالخير من (دغسنا
اقرأ أخطر أبيات شعرية لحسين العماد شقيق مالك قناةالهوية كشف فيها حقيقة فساد المبيدات
5.8مليار دولار قدمتها امريكا لحكومة عدن منذ 2015 وتجدد الدعم لمدة 5سنوات قادمة
منها اغاني محمد سعد عبدالله
الاعلامية اليمنية رندا عكبور تكشف عن سبب سرقةحقوق الفنانين في عدن المستقلة
لم اكن اطيق سماع صوت المعلق الرياضي العيدروس
ماجد زايد./ الفيس بوك /الاوراق
هذه قصةمحاربةرجل الدولة يوسف زبارة ومحاولة لافشال توجيهات ابوجبريل لصالح الفسده الجدد
احمو هذا الرجل.. الصحفي البرلماني الناشط والحقوقي «الملفت» فقد «حمته» حكومات سابقه
زوجات خائنات
قصتي... والطفل بائع السمسم في صنعاء
سبأ عبدالرحمن القوسي وعلى عبدالله صالح والح و ث ي والاحمر .. فأين الوطنية؟

 - لعل أنسب ما يمكن أن يكون مقدمة لهذه المذكرات... هو كلمات سطرها صاحب المذكرات بخط يده، وكتب فيها:

- لعل أنسب ما يمكن أن يكون مقدمة لهذه المذكرات... هو كلمات سطرها صاحب المذكرات بخط يده، وكتب فيها:
الإثنين, 30-سبتمبر-2013
أوراق من صنعاء -

عل أنسب ما يمكن أن يكون مقدمة لهذه المذكرات... هو كلمات سطرها صاحب المذكرات بخط يده، وكتب فيها:

لقد كانت حرب أكتوبر 1973 محكا للتجربة ومحكا للقدرة... على التخطيط... وعلى القتال.. ولقد كتب الله لنا النصر من عنده... وسجلناه بدمائنا... وأرواحنا.

ولقد كان دور القوات الجوية في هذه الحرب بارزا، فلعبت أروع أدوارها على التاريخ كله، وضرب طياروها وضباطها وجنودها وكل رجالها أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء.

ولقد كان لي شرف قيادتها خلال المعارك وقبلها وبعدها، ما زادني فخرا بقيادتهم، وإن كان لنا أن نسجل أعمالهم للتاريخ، فإن بطون الكتب أحفظ لأعمالهم، وستبقى هذه الأعمال فخرا للأجيال القادمة.

غير أن أسرار حرب أكتوبر.. ستظل محلا لدراسات مكثفة على المستويات العسكرية والسياسية والشعبية، وإن كانت هذه إحداها فالأمل أن تتلوها آخريات.

ولا تزال آمال أمتنا معلقة بقواتها المسلحة، حتى تستكمل النصر تحت قيادة الرئيس باعث الشرارة الرئيس محمد أنور السادات... والله ولي التوفيق.



محمد حسني مبارك

نائب رئيس الجمهورية





... «اوراق تنشر عن الراي الكويتية ، وفي حلقات متتابعة تنشر بالتزامن مع جريدة «الوطن» المصرية مذكرات الرئيس المصري الأسبق، وعنوانها «كلمة السر، مذكرات محمد حسني مبارك يونيه 1967 - أكتوبر 1973»، التي سجلها وكتبها محمد الشناوي، وحررها وقدمها عبدالله كمال وجُمعت في كتاب يتألف من مقدمة و13 فصلا وخاتمة، بخلاف التقديم الذي تنشره «الراي» في حلقة اليوم.



• القصة الكاملة لمذكرات قائد القوات الجوية في حرب أكتوبر... السادات أوصى بها ... ومبارك أملاها في 1978

• السادات كلف الدكتور رشاد رشدي بكتابة مذكرات نائبه مبارك فاعتذر لأنه كتب «البحث عن الذات» ورشح الشناوي

• حسني مبارك حلل أسباب هزيمة مصر في يونيو وأنهى المذكرات بإعلان انتصاره على موردخاي هود

• عائلة كاتب المذكرات الأصلية احتفظت طوال 35 سنة بالوثيقة المؤلفة من 500 ورقة فولسكاب

• مبارك اطلع على المذكرات في مقر إقامته الجبرية في المستشفى ووافق على نشرها

• محرر المذكرات في نهاية السبعينات إذاعي كبير ومؤلف درامي ... استمع لمبارك ستة أشهر

• ما هي قصة الفنانة الشابة التي حقق معها مبارك بعد حفل ساهر في القوات المسلحة قبل هزيمة يونيو؟

• مبارك كتب مذكراته في صورة «مبارزة» مع قائد سلاح الجو الإسرائيلي في حرب 1967





مبارك: الضربة الجوية

لم تكن معجزة أو أسطورة



بقلم عبدالله كمال



قادتني إلى هذه الوثيقة التاريخية المهمة... صُدفة سعيدة. للدقة وجدتني في طريقها، إذ لم أبذل جهدا، ولم أخطط لمسعى كي أحصل عليها... بل لم أكن أعرف بوجودها من الأصل... لم يذكر أحد من قبل أن محمد حسني مبارك نائب الرئيس أنور السادات قد كتب مذكراته... حتى مبارك نفسه لم يعلن ذلك وربما لم يكن يتذكره.

كان كل ما أعرفه أن الرئيس مبارك له مذكرات مسجلة تلفزيونيا عن طريق إدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة في ما بعد العام 2000، وأنه قد دون مذكراته الأخيرة في الفترة بين تخليه عن منصبه في 11 فبراير 2011... وقبل أن يتم التحقيق معه، ومن ثم احتجازه ومحاكمته بعد ذلك.

الحكاية بسيطة للغاية : تعرفت إلى مخرج سينمائي وتلفزيوني شاب وواعد. كان واحدا من بين مجموعة من الشباب الذي بدأت في التواصل معه بعد 25 يناير 2011... كنت ولم أزل أحاول التقرب من جيل جديد لم أكن قد تواصلت معه بقدر كاف للاطلاع على أفكاره.

كان من المهم أن أستمع إلى هؤلاء الذين أعلنوا عن غضبهم ضد حكم آمنت بوطنيته وإخلاصه، مهما كان لنا من ملاحظات على أدائه... أن أقترب من آرائهم، وأعرف ما يفكرون فيه، ولماذا هم غاضبون. وكان من بين هؤلاء الفنان كريم الشناوي.

بعد حوارات مختلفة... بعضها فردي... وبعضها جماعي... بعضها مباشر... وبعضها عبر وسائل العصر على «دردشات الواتس آب»... كان أن دخل كريم مكتبي حاملا هذا النص التاريخي الذي كان قد نسيه الرئيس مبارك نفسه قرابة 40 عاما.

إن كريم هو حفيد المرحوم محمد الشناوي، الرجل الذي كتب تلك المذكرات بعد أن استمع لمبارك شهورا طويلة، وتفرغ لتدوينها أشهرا أطول. وبين الحفيد والجد كان الأب الذي بقيت المذكرات في حوزته طوال تلك السنوات... الأستاذ حازم الشناوي الإعلامي والمذيع المعروف بالتلفزيون المصري.

قبل سنوات طويلة كنا قد تعارفنا... أنا وحازم الشناوي، إذ كان يقدم في نهاية التسعينات برنامجا شهيرا يذاع على القناة الثالثة، اسمه «غدا تقول الصحافة»، بموازاة برنامج آخر أوسع شهرة اسمه «الكاميرا في الملعب».

كنا في مختلف الصحف القومية نسعى لأن نكون ضيوفا في برنامج «حازم» الذي أصبح مشهورا بحواراته مع الأستاذ الكبير مفيد فوزي رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» في ذلك الحين... كان مفيد قد أضاف إلى نجوميته مقدارا جديدا بطريقة عرضه الجذابة للمجلة مع حازم الشناوي قبل صدور عددها الجديد بليلة، كل أسبوع.

وكان في داخل كل منا، نحن الصحافيين الشباب، أمنية صغيرة يرجو أن تتحقق بأن نقدم عرضا لصحفنا من خلال هذا المذيع اللافت... وكنت أرجو أن يأتي ترتيب الحلقات ذات يوم بحيث أعرض «مجلة روز اليوسف» باعتباري مساعد رئيس تحريرها مع الأستاذ حازم الشناوي... كنت أعتقد أنني يمكن أن أقترب من أسلوب عرض مفيد فوزي الناجح.

مرت سنوات طويلة منذ آخر لقاء، ربما خمسة عشر عاما على الأقل، حين زارني الأستاذ حازم مع ابنه كريم وفي يده «وثيقة أبيه»... التي كتبها على لسان حسني مبارك... راويًا قصة القوات الجوية في حرب أكتوبر، وكيف صنع هذا المجد العظيم. في هذا اليوم أولتني عائلة الشناوي ثقة تمنيت أن أكون على قدرها.

روى لي حازم الشناوي قصة أبيه مع تلك المذكرات. وقد كانت بدورها قصة بسيطة ولكنها شاءت أن تضيف من بساطتها بعضا من الحكمة إلى وقائع التاريخ... وأدخرها الزمن بطريقة غير متوقعة لكي تكون ذات يوم شهادة موثقة عما تم إغفاله حينا أو الغضب منه حينا آخر.

كان المرحوم الرئيس محمد أنور السادات قد أصدر مذكراته الشهيرة «البحث عن الذات» في أبريل 1978، وقرأها كثير من المصريين... في مطلع شبابي ونهاية صباي كنت واحدا من هؤلاء... النسخة كانت تباع بـ25 قرشا. وقد كانت عامرة بتفاصيل كثيرة وسيرة رئيس حكى نفسه وروى عن نفسه... وكان أهم ما يميز «البحث عن الذات» ما يتعلق بالوقائع التاريخية النابضة والحية وقتها... تلك التي تخص سجل السادات الأعظم في حرب أكتوبر المجيدة... فضلا عن بدء مسيرته نحو السلام مع إسرائيل.

كان السادات واعيا بأهمية الكتب، وضرورة أن يكتب هو بنفسه، وهو ما عرف عنه منذ سنوات طويلة... كان قد بدأ الكتابة خلالها في عديد من الصحف المصرية أبرزها المصور والهلال في حدود العام 1948. ثم بعد ثورة 1952 كان أن أصدر مجموعة من الكتب... هي : قصة الثورة كاملة، يا ولدي هذا عمك جمال، معنى الاتحاد القومي، 30 شهرا في السجن، نحو بعث جديد، القاعدة الشعبية... ثم في نهاية السبعينات أصدر «البحث عن الذات» وفيه روى قصة حياته.

حين صدرت جريدة «مايو» في نهاية السبعينات، ناطقة باسم الحزب الوطني الذي أسسه السادات بديلا لحزب مصر العربي، وعقب بدء التعددية الحزبية، كان أن أملى مجموعة مقالات باسمه عنوانها «عرفت هؤلاء»... وكان معروفا كذلك أنه يملي مباشرة أو بشكل غير مباشر على الأستاذ أنيس منصور كثيرا من المقالات التي تظهر في صور حوارات بمجلة أكتوبر. وبنفس الأسلوب مع تفاصيل مختلفة في الطريقة كان أن كتب المرحوم الدكتور رشاد رشدي أستاذ الأدب والنقد الكبير مذكرات السادات «البحث عن الذات».

كان الرئيس الراحل مولعا بالتوثيق، ومعنيا بالكتابة، ومهتما بالكتب، حتى رغم أن الدعاية اليسارية ضده قد رسخت في الذهنية العامة أنه لا يحب القراءة ويصيبه الملل من التقارير المكتوبة. واحدة من بين الترويجات غير المدققة التي انتشرت في ثقافتنا دون أن تخضع لأي مراجعة... ولم يكن اليسار وحده مشاركا في مثل تلك الترويجات، بل كان لدى الإخوان ماكينتهم الي... كما لم يكن السادات الضحية الوحيدة لهذا... بل عانى مبارك ما هو أكثر وأعرض وأشد تأثيرا... لأن حكمه بالطبع كان أطول ولأنه تقاطع مع الاثنين معا : اليسار والإخوان.

عين الرئيس الراحل أنور السادات الفريق طيار حسني مبارك نائبا له في 1975. وقد كان هذا القرار مثيرا للجدل وقتها، حول أسباب الاختيار، ولماذا مبارك بدلا من كل العسكريين المجايلين له، وفي صدارتهم قادة حرب أكتوبر زملاؤه... وفيهم من هم أقدم منه.

وحده السادات كان يعرف ماذا يفعل... كان القرار معبرا بصورة واضحة عن اقتناعه بقدرات مبارك، والدور الذي قام به في حرب أكتوبر... وكان من الأكيد أن لدى السادات تقديرا عميقا للانتصار الخاص الذي حققته الضربة الجوية في بداية الحرب الضارية لاستعادة الكرامة وتحرير الأرض المصرية من الاحتلال الإسرائيلي... تقدير لا بد من الانتباه إليه، بينما كان مبارك هو القائد الذي استشهد شقيق السادات الأصغر عاطف في الطلعات الجوية التي قررها يوم 6 أكتوبر.

ومن الواضح أن تقدير السادات كان قد شمل ما هو أبعد... إذ كان هو صاحب فكرة تلك المذكرات لكي يروي فيها نائب الرئيس حسني مبارك قصة ما حدث بعد هزيمة 1967 وصولا إلى نصر 1973.

اتصل الرئيس السادات بالدكتور رشاد رشدي، وكلفه بأن يكتب مذكرات قائد سلاح الجو، نائب الرئيس، وأن يستمع منه إلى قصة هذا المجد الذي يجب أن تضم تفاصيله دفتي كتاب للتاريخ... اعتقد السادات أن الدكتور رشاد باعتباره كاتب مذكراته الناجحة سيكون الأنسب لكي يخوض جولة نجاح إضافية بمذكرات حسني مبارك.

من المدهش، وإن كان من المنطقي، أن اعتذر الدكتور رشدي. أسبابه يمكن تفهمها. كان تبريره للسادات مبنيا على أساس أنه كتب مذكرات الرئيس ولا يمكنه أن يدون بنفس الأسلوب مذكرات نائب الرئيس. اقتنع الرئيس السادات وطلب منه أن يرشح بديلا... كان هو الأستاذ محمد الشناوي.

كان الأستاذ الشناوي درعميًّا، حصل على ماجستير في علم النفس، وكان إذاعيا مرموقا... في زمن كانت فيه الإذاعة نجمة وسائل الإعلام، بينما شاشات التلفزيون لم تصل إلى جميع بيوت مصر كما هو الحال الآن. كان قد قطع طريقا طويلا في خبرة العمل كإذاعي قدير... عمل مذيعا لسنوات طويلة، وهو صاحب فكرة تأسيس الإذاعات المحلية، وأول مدير لمحطة «القاهرة الكبرى»، ومؤلفا دراميا في سجله ما لا يقل عن مئة سهرة وخمسين مسلسلا، بخلاف التدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية، وكلية ضباط الشرطة المتخصصين.

وفقًا لرواية حازم الشناوي عن والده الراحل فإن محمد الشناوي اجتمع مع نائب الرئيس محمد حسني مبارك عشرات المرات، روى له فيها كل تفاصيل ودقائق السنوات الست التي قضاها في عملية إعادة بناء القوات الجوية، منذ كان ضابطا قياديا... تلقى ضربة يونيو وهو لم يزل قائدا لقاعدة بني سويف الجوية... حتى أصبح مديرا للكلية الجوية وإلى أن أصبح قائدا للقوات الجوية محققا النصر الجوي الأهم في تاريخ مصر.

وقد كتب محمد الشناوي النص في حدود 500 ورقة فلوسكاب بخط اليد، بعض صفحات منها كان قد دون عليها الرئيس مبارك ملاحظات بخط يده بقلم أحمر... خصوصا في ما يتعلق بالمعلومات الفنية والعسكرية الدقيقة... وتمثل هذه الأوراق الوثيقة الأهم حول تلك السنوات وهذا السلاح وهذا البطل... إذ لا توجد تقريبا غيرها بهذه الدقة وتلك الشمولية وهذا التنظيم... والأهم على لسان محمد حسني مبارك... صانع هذا التاريخ بين كل صناع التاريخ من الجيل البطل الذي حقق نصر أكتوبر.

ليس معروفا على وجه الدقة ما السبب الذي منع نشر تلك المذكرات، وما الذي عطل عملية النشر بعد أن اكتملت الوثيقة... إذ لم أجد لدى الأستاذ حازم ما يمكن نقله عن والده في هذا السياق. غير أن المؤكد أنه كان هناك حرص عائلي على الاحتفاظ بالوثيقة إلى أن يحين وقت تنفيذ وصية الوالد الراحل بالنشر، عندما يجد ابنه ذلك مناسبا.

في بداية 2013 وضع الأستاذ حازم الشناوي ثقته في كاتب هذه السطور، وسلمني صورة من تلك المذكرات ـ الوثيقة، لكي تجد طريقها إلى النور، وترك لي ـ مشكورا ـ أسلوب ترتيب ذلك... توثيقا وتدقيقا، وأرجو أن أكون على قدر ثقة العائلة الحائزة للوثيقة، وثقة صاحب المذكرات، وقبلهما ثقة القارئ الذي نقدم له هذا العمل التاريخي المهم.

للوهلة الأولى، أثبتت قراءة تلك المذكرات، وبما لا يدع مجالا للشك، أنها للرئيس مبارك، سواء من حيث الوقائع الشخصية القليلة التي يرويها، أو من حيث المعلومات الفنية والعسكرية التي تضمنتها، أو من حيث تنظيم المادة المروية عن طريقة إعادة بناء القوات الجوية واستعدادها لحرب أكتوبر ومن ثم تفاصيل ودقائق الضربة الجوية الساحقة لإسرائيل في أكتوبر 1973... فضلا عن الملاحظات الخطية التي وجدتها على جانبي بعض الصفحات وهي بخط أقرب إلى أن يكون ما أعرفه عن خط الرئيس الأسبق لمصر.

في غضون الأشهر القليلة التي تلت وصول هذا النص إلى يدي، لم تتح فرصة مناسبة لإطلاع الرئيس أو أي من أفراد عائلته على المذكرات: ولديه علاء وجمال أو السيدة قرينته. كنت أرغب في أن تكون هذه الخطوة عملا مزدوجا : يحقق أولا توثيق النص، وثانيا السماح بنشره.

كان يمكن أن أمضي في إجراءات النشر، وسط مناخ شغوف بأي شيء عن مبارك... لكني لم أجد أنه مطابقا للمعايير الأخلاقية أن يتم النشر دون إطلاع أي من أفراد عائلة الرئيس مبارك على المكتوب منسوبا إليه... مع كامل التقدير والثقة في أسرة الشناوي الحائزة للوثيقة نقلا عن الأستاذ الراحل محمد الشناوي.

في أغسطس 2013... بُعيد صدور الحكم بأحقية الرئيس مبارك في أن يتم الإفراج عنه إجرائيا من الحبس الاحتياطي الذي قيد حريته لسنتين... كان أن أبلغت الأستاذ فريد الديب المحامي الكبير والمدافع القانوني عن الرئيس مبارك بالأمر... وتكرم سيادته وعرض الأمر على الرئيس مبارك... حيث كان في مقر إقامته الجبرية في مستشفى المعادي... وكان أن تذكر الرئيس الموقف الممتد بينه وبين المرحوم محمد المنشاوي، وطلب أن يقرأ مذكراته.

وتكرم الأستاذ فريد مجددا ونقل الخبر إليَّ، فبدأت على الفور المرحلة الثانية من التعامل مع هذه المذكرات المهمة، تمهيدا لعرضها على صاحبها الرئيس مبارك... وقد عرضت عليه، وقرأها ووافق على نشرها. وبموجب هذا تنشرها دار نهضة مصر وجريدة «الراي» بعد موافقته على ذلك.

لم تقف المهمة التي كلفت بها نفسي عند مسألة توثيق النص، والتأكد من انتسابه التاريخي للرئيس مبارك، ولا عند تولي إدارة عملية نشره عبر الدار المحترمة «نهضة مصر»... ولا عند كتابة هذا التقديم النقدي الشارح للكتاب والراوي لملابساته. بل آليت على نفسي أن أجعله أكثر حداثة عما كان عليه وأن أحرره بما يلائم سنة صدوره في 2013... مع كل التقدير والاحترام للجهد الذي بذله الأستاذ المرحوم محمد الشناوي في نهاية السبعينات من القرن الماضي، أي قبل نحو 40 عاما.

لقد حافظت على روح الأسلوب، ولغة الكتابة، والاقتباسات التي أوردها محمد الشناوي من تلقاء نفسه كما يمكن أن أخمن مهنيا، أو تلك التي أوصى بها الرئيس مبارك كما أتوقع من خلال تحليل المضمون.

يمكن توقع أن محرر المذكرات الأول قد اهتم ببعض المأثورات والأحاديث النبوية وبعض المذكرات العسكرية... وضمنها الصفحات أثناء صياغته للنص المنقول عما سمعه من نائب الرئيس... كما يمكن أن يقودنا الحدس إلى أن مبارك قد اهتم بما ذكرته إسرائيل عن العمليات العسكرية وما ورد في كتبها وتصريحات مسؤوليها... وتوثيق ذلك عبر أدوات المؤسسة العسكرية التي كانت تهتم بذلك منذ زمن بعيد وتتابعه وتعرضه في تقارير دورية على قيادتها المختلفة.

بخلاف ذلك فإن تراتبية المذكرات، وتوالي تفاصيلها، ودور القوات والأفرع، ومهام الأفراد والقادة، وسجلات البطولات الشخصية، وغير ذلك هو من صميم شخصية القائد صانع النصر الجوي... الذي لم يكن يروي مذكراته الشخصية، بقدر ما كان يملي مذكرات القوات الجوية في السنوات الست التي سبقت أكتوبر 73 وقادت إليه.

في هذا السياق قمت ببعض الجهد في عملية تحرير إضافي لهذه المذكرات، يمكن أن أوجزه وفق مقتضيات الأمانة المهنية والتاريخية في ما يلي :

* تغيير عنوان النص من «كلمة السر... صِدام ـ من يونيو 1967 إلى أكتوبر 1973» إلى «المذكرات الأولى لحسني مبارك». ويمكن فهم لماذا اختار الأستاذ الشناوي عنوانه الأول تخليدا لاسم العملية الهجومية القتالية التي قامت بها القوات الجوية المصرية في أكتوبر 1973... على أنه قد لا يبدو العنوان واضحا الآن، لا سيما أن الكثيرين سيحتاجون إلى تشكيل النطق لكي يكون حرف «الصاد» مكسورا وينطق صحيحا بدلا من أن يشير إلى اسم رئيس العراق الراحل صدام حسين.

والأهم لأن العنوان المقترح من جانبي بديلا يشير إلى حقيقة تاريخية وتعبر عما هو يعبر بنطاقه فوق تفاصيل تلك العملية الجوية المجيدة إلى ما يخص صاحب المذكرات نفسه وقد أضاف إلى سيرته جدلا مهولا بعد المتغير الدرامي الذي حدث في يناير ـ فبراير 2011 منهيًا حكمه لمصر طوال 30 عاما.

* قمت بعدد من عمليات التكثيف والاختصار، التي لا تخل بقيمة النص، ولا روح السياق الذي قام به الأستاذ الشناوي. وكان سبب ذلك هو اعتقادي بأن النص الذي وصل يدي كان قيد المراجعة ولم يكن نصًّا أخيرا... فضلا عن أن الطبيعة الإذاعية للغة الأستاذ المرحوم محمد الشناوي كانت تميل به إلى أن يضع تكرارات من فصل لآخر مذكرا بها، حسب أسلوب العمل الإذاعي، مقارنة بما هو غير معتاد في أساليب التحرير المقروءة.

* قمت بإعادة التبويب عن طريق الدمج، وليس بإعادة الترتيب... بمعنى أنني حافظت على درامية وتاريخية العمل كما دونه الأستاذ الشناوي، غير أني ألغيت التوزيع بطريقة الأبواب الرئيسة المتضمنة لفصول داخلية فرعية، وجعلتها كلها فصولا متتابعة، ما اقتضى دمج بعض الفصول.

كانت المذكرات موزعة كما يلي : مقدمة، وسبعة أبواب، تتوزع كلها على فصول، بعضها أربعة وبعضها خمسة، باستثناء الباب الرابع فهو كتلة واحدة، وخاتمة.

في تبويبها الجديد، وبعد دمج عديد من الفصول، صارت هذه المذكرات مكونة من مقدمة و13 فصلا وخاتمة، بخلاف هذا التقديم.

* قمت ببعض عمليات إعادة تنظيم الفقرات، وإعادة كتابة بدايتها، محاولا أن يكون هذا أكثر تناسبا مع لغة تحرير مغايرة... ودون إخلال بالجهد المبذول قبل أربعين سنة.

* حررت هذا التقديم التاريخي ـ التوثيقي، والنقدي، الإضافي والواجب.

إن صدفة العثور على تلك المذكرات هي نفسها بعض قيمتها، من حيث إنها وصلتني عبر شاب ينتمي إلى جيل رفض الكثير من أبنائه حسني مبارك، وخرجوا ثائرين ضده، ذلك أن هذا الجيل لم يعرف مبارك... ولم يعرف الجيل الذي أنتمي إليه كقائد عسكري... مجدته الأغاني الدعائية ولم تشر إلى قيمة عمله وإنجازه الحقيقي وثائق منضبطة وذات قيمة تاريخية وعلمية. هذه الوثيقة تكمن أهميتها في أنها تربط بين أجيال حققت وفعلت وأجيال لم تعرف.

ليست تلك مشكلة يتحملها الجيل الجديد وحده. حين تفرغ مبارك نفسه لذكر بعض ما فعل في هذه الحرب المجيدة حدث أن تعطل وصول رسالته. مرات لأنه كانت قد مضت سنوات طويلة فلم يعد يسرد تفصيلا حقيقة الضربة الجوية، وكان يذكر بعض العناوين العابرة في حوارات سريعة غير مهتمة بالدقائق والمكونات الصغيرة لحدث كبير. ومرة لأن هذه المذكرات لم تعرف طريق النشر. وقد أخذته السنوات وتفاصيل الحكم ومتغيرات الأيام، التي ربما بدا بعضها كما لو أنه حروب متكررة تتطلب عبورا تلو آخر... وترتيبا لإعادة البناء مرة بعد غيرها.

وعلى الرغم من أنه توجد بعض الكتابات هنا أو هناك حول السنوات الثلاثين لحكم مبارك، فإن كثيرا منها لم يهتم بالغوص في تفاصيل، واكتفى البعض بما يمكنه اعتباره مجاملة لرئيس، ورأى فيه الجيل الجديد أنه نفاقات... واهتم البعض الآخر بما يمكن اعتباره هجوما سياسيا على رئيس، رأى فيه مؤيدوه ظلما له. وحتى لحظة صدور هذا الكتاب فإنه لم توجد بعد مصادر واضحة ودقيقة وشاملة وموضوعية لا عن سنوات حكم مبارك، ولا عنه شخصيا... لا عن سيرة السياسي الحاكم ولا عن تاريخ العسكري البطل.

هذا تناقض مريع تاريخيا، بين حقيقة أن الرئيس مبارك قد حكم ثلاثين عاما، وامتد مساره العملي لأكثر من خمسين سنة، وبين كونه الرئيس الذي لم تدون عنه تاريخيا كثير من تفاصيل سيرته... لا قبل أن يكون رئيسا ولا بعد أن أصبح رئيسا ولا عقب تركه لمنصبه كرئيس.

لقد اكتفى مبارك وحكمه بالمادة الإعلامية السيارة التي كانت تغطي أنشطة يومية ووقائع إخبارية، للدقة هو لم يكتف... وإنما لم يسع. ولا يوجد بشأن سيرته كتاب تحليلي شامل، أو سيرة موثقة، أو أي منتج ثقافي متعمق آخر. إن الكتاب الذي يمكن أن تعثر عليه بشأن مبارك قد يكون دعائيا أو ألبوما مصورا... أو كتابا انتقاديا هجوميا رافضا.

وبالموازاة لمبارك، فإن حرب أكتوبر، وهي تتخطى دور شخص بعينه، وتشمل بطولات ومواقف وأدوار لمئات الألوف من المصريين، كان بدورها أن لقيت ظلما تاريخيا ولم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام التفصيلي والدقيق... حتى مع صدور عدد من مذكرات بعض من كبار قادتها. ربما لأسباب ودواعي السرية التي فرضت عليها وعلى تفاصيل حقوق المعرفة العسكرية التي أحاط بها الكتمان عقودا... وربما لأن النصوص التي صدرت لم تتضمن تفصيلات محددة بالطريقة الاستثنائية الواردة في هذه المذكرات على لسان نائب الرئيس محمد حسني مبارك.

باستثناء مذكرات الفريق محمد عبدالغني الجمسي فإن الصورة التي تصل عن حرب أكتوبر إلى الأجيال الجديدة تبدو غير مكتملة وتحتاج إلى مزيد من التفصيل... بل إن قائدها الميداني الأهم، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع المشير أحمد إسماعيل لم يمنحه الزمن فرصة لكي يروي تجربته ومسيرته وقصة الانتصار الذي سجل فيه اسمه.

لقد مضت سنوات طويلة على حرب أكتوبر، وبمضي السنوات طوى النسيان مذكرات قادة حرب أكتوبر، الذين لم تنشغل بهم تفصيلا الحركة النقدية والأعمال البحثية، والعملية التي تبقى قيم تلك الحرب وأهميتها التاريخية يقظة في ذهن وعقل الأجيال التالية... لا تحليل ولا دراسات ولا مراجعات... لم تعد حرب أكتوبر مدرجة أصلا عن الخطط البحثية للجامعات والمعاهد المصرية.

وبنفاد سنوات هذا الجيل صانع النصر، فإن الأعمال التي تتناول حرب أكتوبر ودقائقها انقطعت، ولا تضم المكتبات العربية والمصرية إلا مؤلفات نادرة عن الوقائع وتحليلها ودراستها وبحث تأثيراتها. ومن هنا فإن صدور تلك المذكرات التي أملاها نائب الرئيس محمد حسني مبارك يسقي تربة ذاكرة قد جفت، ويرطب اهتماما قد ذبل.

وليس بعيدا عن هذا الظلم المتراكم أن حربا معنوية وتاريخية وعلمية قد تم شنها على قيمة حرب أكتوبر ومجدها، تشويها وتقليلا وإضعافا، بل تحويلها ـ استسلاما للرواية الإسرائيلية ـ إلى حرب متعادلة في أفضل الأحوال... وفي أحوال أخرى وفقا لروايات غير عربية بدت كما لو أنها هزيمة ناقصة أو نصرا غير مكتمل.

هذا أمر جلل وخطير وجدير بالانتباه بالنسبة لاهتمامنا بأجيال صار عليها أن تستسلم لحملات دعائية جعلت من الصمود الخاسر من قبل بعض التنظيمات في معارك عابرة نوعا من الانتصار، وأصبح عليها أن تقتنع بأن الجيش المصري بلا مجد مادام لم يخض حربا منذ انتهت حرب أكتوبر 1973.

إن أهمية «المذكرات الأولى لحسني مبارك» لا تكمن فحسب في صاحبها، بقدر ما تكمن كذلك فيما ترويه عن المؤسسة العظيمة التي كان هو أحد أبطالها، وأبطال انتصارها في أكتوبر 1973... ويعزي ذلك إلى الطريقة التي روى بها مبارك تفاصيل عملية إعادة بناء القوات الجوية... باعتبارها الخاسر الأهم والأكبر في هزيمة يونيو 1967... ومن ثم باعتبارها صاحبة ضربة النصر الأولى في حرب أكتوبر 1973 المجيدة.

لا يمكن اعتبار هذا الكتاب «مذكرات شخصية»، وإن كان «مذكرات» بالتأكيد، ذلك أن نائب الرئيس محمد حسني مبارك لم يجعل من نفسه محورا لها، ولم يتطرق إلى ذاته إلا في مرات نادرة. لقد جعل من الكتاب سجلا لسنوات تطوير القوات الجوية، وانتقالها من الهزيمة إلى النصر... وبدا خلال تلك الصفحات شاهدا غير معلن أكثر من تقديمه لنفسه على أنه فاعل رئيس. من المدهش أنه لا يتوقف عند محطات تاريخية مهمة ليروي تفاصيل كيف أصبح مديرا للكلية الجوية ومن ثم كيف عين رئيسا للأركان وكيف تم اختياره قائدا للقوات الجوية.

مشهدان يركز عليهما حسني مبارك بشأن نفسه، الأول وهو مهزوم... يشعر بالظلم الفادح لأنه لم يقاتل... عاكسا تلك الصورة على جميع الأفراد والقادة في القوات الجوية خاصة والقوات المسلحة عموما. والثاني وهو منتصر يثبت بروايته لا بالحديث عن عمله الشخصي كيف أثبت المقاتل المصري جدارته وكيف تمكن من أخذ أسباب العلم والقوة لكي يثأر لنفسه ولأمته.

بدا مبارك حريصا على عدم التفاخر في هذه الوثيقة، ليس لأنه أصر على أن يكون ملتزما إلى حد بعيد بالغرض الذي وجد أن الرئيس السادات قد استهدفه... أي أن يروي قصة الضربة الجوية، ومن ثم تباعد عن أن يكتب سيرة صاحب الضربة الجوية... ولكن أيضا لأن تحليل المضمون يثبت أنه ابتعد عن منطق «التفاخر القومي»... وانتهج منذ الصفحات الأولى، وبإصرار، أسلوب التحليل العلمي والواقعي... وصولا إلى نتيجة محددة وهي أن ما تحقق من القوات الجوية لم يكن «معجزة» أو «أسطورة».

كان منطق مبارك المعلن لتبرير ذلك، هو أنها إذا كانت «معجزة» أو «أسطورة» فإنها تكون بذلك حدثا استثنائيا، منحة عابرة، بينما أراد أن يثبت طوال صفحات ذلك الكتاب... كما فعل توثيقا... أن العملية الجوية «صِدام» كانت نتاج تقييم وتخطيط ودراسات وتدريب وإصرار وإرادة... يمكن أن يتكرر إذا تكرر ذات الجهد الذي تم بذله من أجل الوصول إلى هذا النصر... وإذا تكررت المبررات الداعية لحدوثها.

لقد أخفى مبارك نفسه من مذكراته الأولى، من حيث إنه لم يكتبها بطريقة أنه في يوم ما استدعى أو قابل أو وجه بأمر معين، وفي يوم آخر اجتمع بهذا أو ذاك... ومن حيث إنه لم يقل قابلت وسمعت وفكرت وقررت وقرأت... وإنما دونها بطريقة «مسيرة فريق» من الأفراد والقادة، في مختلف قواعد وألوية وأفرع القوات الجوية، وفي سياق منظومة القوات المسلحة برمتها.

في هذه المذكرات: لم يكتب مبارك عن مبارك، مباشرة، إلا ثلاث مرات تقريبا، الأولى حين تحدث عن مشهد معاناته من الهزيمة، والثانية حين روى واقعة لجنة التحقيق التي فوجئ بأن شاهدة أمامها قد ذكرت عنه رواية غير صحيحة دون أن تعرف أنه يرأس لجنة التحقيق التي تستمع إليها، وكانت الثالثة عندما روى كيف شارك في خطة الخداع الاستراتيجي لمفاجأة الحرب.

عوضا عن هذا، جعل مبارك من تلك المذكرات مبارزة منهجية متصاعدة بينه وبين القائد الإسرائيلي الجنرال موردخاي هود مخطط وقائد الضربة الجوية الإسرائيلية التي أوقعت الهزيمة بمصر في صباح يوم 5 يونيو 1967. وقد كان هذا الأسلوب اللافت مهمًّا للغاية في التعبير عن فكرة الكتاب من حيث إنه جعل هذه المواجهة تحقق ما يلي :

1- إكساب المذكرات بعدا دراميا صراعيا، يمزج ما بين الشخصي والعام، من حيث أن المواجهة كانت بين قائدين... أحدهما كسب جولة والثاني يخطط للثأر، ومن حيث إنها كانت بين اثنتين من القوات الجوية المتحاربة، ومن حيث إنها كانت كذلك صراعا بين بلدين وشعبين..بين مصر وإسرائيل.

2- منحت هذه المواجهة التي صنعها مبارك لمؤلفه فرصة أن يحلل ما قام به خصمه، وأن يعطيه بداية الاعتراف بأنه قد حقق مكسبا، ثم يسحب هذا الاعتراف ويهدم هذا المنهج بتأكيد كونه لا يعبر عن ابتكار خاص، ولا يمثل إنجازا، ويفتقد إلى الشرف، ويستند إلى عوامل مساعدة لو لم تكن متوافرة ما أمكن لمردخاي هود أن يحقق نصره.

3- أعطت المواجهة بهذا الشكل للقائد المصري حسني مبارك فرصة أن يأخذ قارئه خطوة تلو أخرى نحو إعلان انتصاره على القائد الإسرائيلي... بقصد إبلاغ رسالته الأساسية وهي أن «الإسرائيلي» وما يمثله ليست لديه أي ميزات استثنائية... وأن «المصري» هُزم لأنه واجه عيوبا نتجت عن «تقصير» وليس لأنه مهزوم بالفطرة، أو لأنه يعاني من «قصور» مولود به كما أرادت هزيمة يونيو ـ من جانب إسرائيل ـ أن تقول وتروج.

4- استخدم مبارك هذه المواجهة، بدهاء مبهر، لكي يؤكد على جِدة وحداثة الضربة الجوية التي خطط لها ونفذها، وكيف أنها كانت مبتكرة ومبدعة، ونتاج العقل المصري، وتمثل إضافة حقيقية في تاريخ القتال الجوي... مقارنا بين أداء القوات المصرية في 1973 والقوات الإسرائيلية في يونيو 1976.

بمقاييس المقروئية العادية تبدو صفحات هذه المذكرات أقرب إلى أن تكون جافة، لأنها لا تتضمن مشهيات القراءة المتوقعة... فهي لا تتضمن قصصا وحكايات ومشاهد طريفة... إلا حين تصل إلى فصلها الأخير... عندما يحرص مبارك على ذكر عديد من أمثلة البطولات التي قدمها الطيارون والمقاتلون في القوات الجوية... وكلها احتوت على قيم ملهمة ومآثر خالدة.

في النص الأصلي الذي حرره الأستاذ الشناوي كان أن ضم كل تلك القصص في فصول تحت الباب السابع، ووزع قصص الأفراد بحسب كل فرع في القوات الجوية.

تحريريا كان يمكنني أن أوزع القصص الإنسانية والبطولات المميزة لأفراد وقادة القوات الجوية التي أوردها الفريق طيار محمد حسني مبارك على مختلف فصول الكتاب... كان هذا سيوفر فرصا لمزيد من أساليب الإمتاع أثناء القراءة... غير أن هذا كان سيخل بالترتيب الأصلي للنص المكتوب، الذي بني ترابطيا انتقالا من محور إلى آخر، ومن مرحلة إلى غيرها، ثم توج في النهاية بالفصل الأخير الذي يحكي قصص الأمجاد الشخصية... وبمنتهى الحرص على أن يبدو ذلك في سياق روح فريق واحد.

للباحثين عن المتعة ـ القراءة عندي لا بد أن تضيف انبساطا يتوج المعرفة ـ تكتسب هذه المذكرات رونقها وإمتاعها من جوانب أخرى، إذ بخلاف هذه المواجهة المستمرة بين مبارك وموردخاي هود، كانت المهمة التي أولى مبارك نفسه بها هي أن يسقط في كل صفحة واحدة من الأساطير التي روجتها إسرائيل عن نفسها بعد يونيو 1967... بأسلوب علمي وطريقة واقعية، لم تذهب نحو الحديث عن البطولات افتخارا... بل نحت إلى التأكيد المستمر على منهج «الأخذ بالأسباب».

وفي صراعه هذا مع الجنرال مردخاي هود، وحتى وهو ينتقده، ويؤكد أن خطة ضربة يونيو 1967 منقولة عن الفكر الإنجلو فرانكفوني العسكري في حرب 1956، فإن مبارك كان يعطي لخصمه قدرة... إذ على قدر الخصم وقوته كان حجم النصر وتاريخيته.

لقد نقل الفريق طيار حسني مبارك الحرب إلى صفحات مذكراته، كما لو أنه كان في غرفة عمليات القوات الجوية، يخطط، وينفذ، ويأمر بالتدريب، ويرقي مستوى التسليح، إلى أن حانت لحظة القتال... في كل صفحة، أو للدقة، كل فصل كان يسير بالتفاصيل عبر هذا المسار ونحو هذا الاتجاه.

إن الاطلاع على هذا النص لا يؤكد فقط جدارة مبارك بأنه كان طيارا مقاتلا تاريخيا، ولكن ـ وهذا مهم للغاية ـ يحيي في ذاكرة الأمتين المصرية والعربية مدى وحجم هذا الإنجاز الذي تحقق، وكيف أنه يمكن لهما أن تمضيا في طريق مختلف نحو الحداثة إذا اتبعتا ذات المنهج وتصديتا للتحدي... وكان الهدف محددا وطريق الوصول إليه كان عبر العلم والتدريب.

رسالة ومنطق الكتاب هو أن :الهزيمة ليست قدرا، والنصر ليس صدفة... وفي سبيل ذلك، ووفق التزامه بمعايير السرية التي كانت مفروضة وقتها حتى على نائب رئيس الجمهورية، فإن محمد حسني مبارك يشرح في فصول متتابعة كيف تحقق النصر... وكيف تم التغلب على الهزيمة. وقبل ذلك فإنه بمنهج القوات المسلحة المصرية يقيِّم ما وقع وأسبابه والدروس المستفادة منه، وطرق علاج الأخطاء، وكيف أمكن امتلاك أدوات الانتصار.

لم يكن الطريق إلى النصر سهلا ويسيرا، كما لم تمر السنوات من 1967 إلى 1973 بسلاسة... وبقدر ما تبدو مروية الأعوام المريرة عادية وبسيطة ونحن نقرأها الآن بعد أربعين عاما من النصر، بقدر ما كمنت فيها عوامل قسوة المهمة وعبء الثأر وضخامة العمل وحجم التضحيات. وفي هذه الصفحات كان أن قدم حسني مبارك ذلك العمل التاريخي، وهو جانب من بين جوانب العملية العسكرية كلها في أكتوبر 1973 كما لو أنه يمكن لأي أحد أن يقوم به... في حين أنه لم يكن كذلك على الإطلاق... ولعلنا نلاحظ بالاطلاع على هذه المذكرات ما يلي :

1- قبل بناء المقاتل بدنًا وتسليحا وتدريبا كانت المهمة الأصعب والأهم هي إعادة بنائه نفسيا ومعنويا. في مذكراته أعطى مبارك جهدا عميقا ومثابرا لكي يشرح ذلك وأهميته ودوره في تأصيل وترسيخ عقيدة القتال، واستنهاض المصري من هزيمته، في ضوء أن الهدف الذي رأى مبارك أنه كان مخططا من قبل إسرائيل في يونيو 1967 هو قهر المواطن المصري خصوصا والعربي عموما نفسيا وتنكيس ذاته بحيث لا تقوم لها قائمة من جديد.

2- بخلاف البناء المعنوي، فإن المقاتل بنى معرفيا، ومن اللافت أن القائد حسني مبارك ركز على أن ردود أفعال المقاتلين وقراراتهم القتالية لا تكون متحصلة فقط من عمليات تدريبهم وتسليحهم وتجهيزهم معنويا... بل رأى أنها تعود في الأصل إلى تراكم حضاري يتجمع في لحظة المواجهة ويكون أن ينتج قرارات المقاتل التي تؤدي للانتصار.

أكثر من مرة يشير مبارك إلى الأسلوب الذي أنتجه أحد قادة التشكيلات بعد أن أنهى مهمته القتالية ونفدت ذخيرته كلها هو وكل من معه من زملائه ثم واجه تشكيلا مفاجئا من الطيارين الإسرائيليين... فكان أن ابتكر نوعا فريدا من المناورة أوحى للعدو أنه بكامل قدرته ما أدى إلى فرار الآخرين. مثل هذه القدرة التي تم ابتكارها في لحظة وأصبحت بعد ذلك خبرة يثبت مبارك أنها نتاج تراكم معرفي يميز هذا المقاتل عن غيره من مقاتلي العدو أو غيره.

3- لم يذهب المصريون إلى حرب أكتوبر فجأة، كما أنهم لم يكونوا قادرين عليها في وقت قصير... ولم تكن التدريبات وحدها كافية لاكتساب المهارات ونمو القدرات... وكان المقاتلون بحاجة إلى أن يواجهوا الطيارين الإسرائيليين ليعرفوهم قبل أن يقاتلوهم في معركة الثأر. ومن هنا تبدو في المذكرات أهمية وفلسفة حرب الاستنزاف التي يشرح مبارك مبررها التكتيكي بطريقة لم تكتب من قبل، ويصفها بأنها «جامعة» كان لا بد من الالتحاق بها قبل التقدم إلى نصر أكتوبر.

4- إن مشاركة أكثر من مئتي طائرة في أولى طلعات الضربة الجوية في الساعة الثانية وخمس دقائق يوم 6 أكتوبر لم يكن سوى قمة جبل الجليد... وحتى يسيطر المقاتل على عنان السماء وهو في مواجهة خصمه فإن عشرات من التفاصيل المعقدة على الأرض، وبين السماء والأرض، لا بد أن تكون قد تمت... بدءا من إعادة بناء المطارات وتوزيعها وحمايتها وطريقة التجهيز الفني للطائرات وإعادة تطويرها وتحديثها وتدريب الأطقم المعاونة..ومن أهمية هذه المذكرات أنها تشرح ذلك تفصيلا.

لقد أعلى مبارك في مذكراته قيمة «الفريق» لا «الفرد»، وهنا تتجلى قيمته في الانزواء كقائد تاريخي للقوات الجوية حين طوى دوره بين أدوار جميع أفراد وقيادات سلاح الجو، وحين اهتم بأن يوزع كل فصول كتابه ومرويته على جميع أفرع وأنساق القوات الجوية. في أحد أهم الفصول يذكر تفصيلا دور كل من المقاتلات، والقاذفات، والهليكوبتر، وعمليات الاستطلاع والنقل والاتصال والإبرار والأطقم الفنية.

5- لأول مرة يذكر مبارك تفاصيل الدور الذي قام به علميا في مرحلة توليه لإدارة الكلية الجوية... ويوثق ما أنتجه الفكر العسكري العلمي المصري خلال السنوات الست ظهيرا للضربة الجوية وفي الطريق إليها. وعلى الرغم من أنه اهتم في مواضع مختلفة من تلك المذكرات بانتقاد الفكر العسكري القديم والبالي الذي أدى إلى هزيمة 1967 فإنه يدهش قارئه بذكر فائدة إعادة إحياء أفكار عسكرية قديمة وتوظيفها في ضوء الإمكانات المحدودة لتحقيق أهداف جديدة. مثال ذلك استحياء الدفاع الجوي بأسلوب البالون ودراسة ذلك في الكلية الجوية.

6- يروي مبارك إسهامه في خطة الخداع الاستراتيجي، ومفاجأة الحرب، وبقدر أهمية تلك التفاصيل... فإن التحليل العلمي في حاجة إلى أن يستفيد مما يرويه مبارك وغيره من القادة العسكريين حول تلك الخطة وعملية التمويه القومية التي شاركت فيها مصر كلها ـ كما يقول مبارك ـ وليس الجيش وحده... لفهم طبيعة هذا المكون في الثقافة المصرية وتأثير المناوره على سلوك الأفراد والشعب برمته ومؤسسته العسكرية في لحظات بعينها، وأثناء مواجهة خصم ما.

وبخلاف ذلك، وغيره كثير، تكمن أهمية هذه المذكرات، حول القائد والقوات، في أنها تؤرخ للحظة التي عُنيت بها، وتكشف ما غاب بمرور السنوات، وتميط اللثام عن أسرار لم تعلن من قبل... وفي ذات الوقت تمثل وسيلة إضافية لفهم شخصية صاحبها، ومنهجه السياسي، والبعدين الوطني والقومي في أفكاره خلال سنوات الحرب وما تلا ذلك وقبل أن يكون رئيسا... وكيف يمكن أن يفسر هذا سياق مواقفه وسياساته بعد أن أصبح رئيسا.

وبقدر ما تكشف المذكرات الأولى لحسني مبارك طريقة تفكيره، بقدر ما تطرح التساؤلات حول السنوات الثلاثين التي حكم فيها مصر... ومن ثم التحديات التي واجهها، وكيف تعامل معها، وإلى أي مدى استعان بالأساليب التي التزم بها وفرضها وطبقها في السنوات الست من 1967 إلى 1973... وما الذي يجده القائد العسكري المنتصر في الحياة المدنية عندما ينتقل إليها، وتمكنه أو لا تمكنه وقائع وملابسات مختلفة من تحقيق أهدافه.

حين وقعت بين يدي هذه الوثيقة بالغة الأهمية، أدركت ما هو حجم هذا السبق التاريخي، وقيمته، وتأثيره... والأفق التي يفتحها، والمعلومات التي يوفرها، والمعاني التي يضيفها. وبقدر ما تمثله من حيث كونها عملا علميا وتاريخيا تعني به اهتمامات مختلفة لأنواع وفئات متباينة من القراء... فإنها تعتبر إنصافا رتبته الأقدار لقائد مصري عظيم، كان أن تسببت تعقيدات السياسة في الطعن في مكانته العسكرية... وقيمة ما حققه في نصر أكتوبر المجيد.

هذا الإنصاف الذي قدمته الصدفة من أجل سيرة رجل... يمثل إنصافا أعظم أهمية للحقيقة وللتاريخ وللأجيال التي لم تعرف الكثير عن صاحب المذكرات، كما لم تعرف سوى النادر عن جيله وقيمته في مسيرة مصر.الجزء الثاني

ولقد كان دور القوات الجوية في هذه الحرب بارزا، فلعبت أروع أدوارها على التاريخ كله، وضرب طياروها وضباطها وجنودها وكل رجالها أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء.

ولقد كان لي شرف قيادتها خلال المعارك وقبلها وبعدها، ما زادني فخرا بقيادتهم، وإن كان لنا أن نسجل أعمالهم للتاريخ، فإن بطون الكتب أحفظ لأعمالهم، وستبقى هذه الأعمال فخرا للأجيال القادمة.

غير أن أسرار حرب أكتوبر.. ستظل محلا لدراسات مكثفة على المستويات العسكرية والسياسية والشعبية، وإن كانت هذه إحداها فالأمل أن تتلوها آخريات.

ولا تزال آمال أمتنا معلقة بقواتها المسلحة، حتى تستكمل النصر تحت قيادة الرئيس باعث الشرارة الرئيس محمد أنور السادات... والله ولي التوفيق.



محمد حسني مبارك

نائب رئيس الجمهورية





... «الراي»، وفي حلقات متتابعة تنشر بالتزامن مع جريدة «الوطن» المصرية مذكرات الرئيس المصري الأسبق، وعنوانها «كلمة السر، مذكرات محمد حسني مبارك يونيه 1967 - أكتوبر 1973»، التي سجلها وكتبها محمد الشناوي، وحررها وقدمها عبدالله كمال وجُمعت في كتاب يتألف من مقدمة و13 فصلا وخاتمة، بخلاف التقديم.

 

• كنا نعرف جيداً أن ما حدث في معارك 5 يونيو لا يشكل عبقرية عسكرية بل مجرد استغلال جيد لظروف معينة

 • إسرائيل تؤمن إيمانا راسخا أن عدوها الأول وخصمها الأخطر شأنا والأثقل وزنا هو مصر وشعبها

 • 5 يونيو هو اليوم الأشد حزنا في حياتي ... وقعت فيه أعظم هزائمي الوطنية والشخصية

• مركز العمليات طلب مني تنفيذ الخطة «فهد»... ولكن الوقت قد ضاع

• الإسرائيليون دمروا طائراتنا و«أخطاءنا» ونسفوا الشللية التي كانت موجودة

• 220 طائرة عبرت القناة لترد لإسرائيل الضربة بقوة... وفي 20 دقيقة نجحت بنسبة 95 في المئة

• كتابي يفرضه الواجب الوطني... ولنبين ملحمة الطيران المصري

• الكتاب هو تحليل دقيق لميدان من أخطر ميادين الصراع «العربي - الإسرائيلي» ... وهو السيادة الجوية





حسني مبارك: لا يوجد شيء اسمه المستحيل

ما دامت هناك إرادة وإصرار لا يعرف التراجع



في هذا اليوم الأشد حزنا في مراحل حياتي ؛ وقعت أعظم هزائمي الوطنية والشخصية، فقدت سلاحي أمام عيني، وخسرت بلادي سلاحها الجوي ومُنيت بهزيمة عسكرية كبرى.. في هذا اليوم أيضا تحقق أهم مكاسبنا وواحد من أكبر انتصاراتنا على أنفسنا.

* التاريخ: 5 يونيو العام 1967

* الوقت: الساعة السادسة من صباح الإثنين، الذي قُدر له أن يحمل فيما بعد ولبضع سنوات، على امتداد الوطن العربي كله، صفة «يوم الإثنين الحزين».

* المكان: قاعدة بني سويف الجوية. كانت حتى ذلك التاريخ، مقر لواء القاذفات الثقيلة المكونة من طائرات «ت ي 16».

بعد ليلة من النوم المتقطع، هاجمني خلالها أرق غريب، لم أدرك سببه على وجه التحديد. لقد أرجعت هذا الأرق إلى إحساس بتوتر الموقف العسكري بيننا وبين العدو، وما قد يؤدي إليه من تتابعات محتملة. كنت أشك أننا حسبنا بدقة ما سوف يُؤمن قواتنا المسلحة عمومًا، وقواتنا الجوية بالذات إذا ما وقعت مفاجأة مؤسفة. لقد تحول هذا الشك فيما بعد إلى يقين، أيدته الأحداث والوقائع.

كنت منذ عودتي من بعثتي الدراسية إلى الاتحاد السوفياتي، أتولى قيادة لواء القاذفات الثقيلة «ت ي 16» ـ وهو منصب كان يجر عليّ الكثير من المتاعب التي تخلقها «الشللية»، التي كانت منتشرة بشكل مَرضي على مستوى القيادة قبل 5 يونيو 1967. كان سلاحي الوحيد في مواجهة هذا الوباء ـ الشللية ـ هو الانهماك في العمل إلى الحد الذي لا يسمح لي أنا شخصيًّا بالوقت الكافي للتفكير في تصرفات الشلل المحدقة بي، أو محاولة الرد على «المكائد» التي تحُاك ضدي، طمعا في الموقع القيادي الذي أتولاه.

إيجابيا، كان هذا الانهماك في العمل من جانبي يؤدي بالضرورة إلى تحقيق نتائج عسكرية، لا يستطيع أشد الطامعين شغفًا إلى موقعي أن ينكر أثرها على الارتفاع بمستوى القدرة القتالية للواء الذي أتولى قيادته.

أذكر، بينما أستعيد شريط الأحداث التي عبرتها في تلك الفترة المؤلمة: أنني أمضيت على سبيل المثال، ستة أشهر كاملة ـ في بدء تشكيل اللواء وإعداده لا أغادر مقر قيادتي على الإطلاق، ولا أذهب إلى بيتي ولو لحظات عابرة.. وكنت أقضي ساعات النهار، وجزءًا كبيرًا من الليل، في عمل متواصل، لا أسمح خلاله لنفسي إلا بوقت محدود من النوم الخاطف، الذي يهيئ لي متابعة العمل من جديد.

رغم هذا الجهد المتواصل فإنني كنت أفاجأ ـ مع بالغ أسفي بأن الشِّلل التي تحاصرني في كل مكان أتواجد فيه، كانت تنتهز أي فرصة يتصورون خلالها بأنني غفلت لحظة واحدة عن ألاعيبهم المعرقلة.

في مثل هذا المناخ المؤسف، كنت أتابع بقلق بالغ، أخبار التطور السريع في الموقف العسكري، وبجهد كبير كنت أسيطر على القلق الذي لو استسلمت له فإنه يؤدي بالمقاتل إلى أوخم العواقب، خصوصًا إذا كان يتولى موقعًا قياديًّا له أهمية خاصة. وبمواصلة العمل، لا أعتقد أن أحدا قد فوجئ في مقر قيادة اللواء، عندما رأوني أباشر مهمتي بمكتبي في تلك الساعة المبكرة جدًّا من صباح الاثنين 5 يونيو العام 1967.

كانت أمامي يوميًّا مهمة قد يعتبرها غيري من الزملاء قادة الألوية الجوية، مهمة عادية، بل ودون مستوى اهتمام قائد اللواء شخصيًا، وهي مصاحبة مجموعة من الطيارين في طلعة تدريب عادية. في منهجي كان الأمر مختلفا تمام الاختلاف: إن القائد الذي لا يعنى بالتدريب المستمر، الذي يحفظ لرجاله مستوى دائم الارتفاع والتجديد من القدرة القتالية، ولا يُشرف بنفسه على هذه المسؤولية، ويتولى متابعتها شخصيًّا، قائد مقصر في أداء واجبه.. أو هو لا يعرف حدوده ومسؤولياته القيادية.

هكذا كنت في غاية السعادة، وأنا أستقبل خمسة من طياري القاعدة ـ في بني سويف ـ جاؤوا يعلنون رغبتهم في الطيران، لأنه مضى عليهم وقت طويل لم يطيروا. استجبت على الفور لرغبة المقاتلين الخمسة، ووعدتهم بالاشتراك معهم، وتحددت بالفعل الساعة 9.05 «التاسعة وخمس دقائق» من صباح الاثنين 5 يونيو موعد الطلعة التدريبية المرتقبة.

كان كل شيء يبدو هادئًا وعاديًا في هذا اليوم. ولم يلح في الأفق ـ العسكري على الأقل ـ ما ينذر، أو يشير مجرد إشارة إلى احتمال وقوع الكارثة أو ما هو قريب منها... ولم يرد للقاعدة من القيادة الجوية في القاهرة، أي توجيه بمهام غير عادية، لهذا مضت الأمور في مجراها الطبيعي بالنسبة لنا.

أقلعت الطائرة الأولى في الموعد المحدد تمامًا ـ ودون تأخير أو تقديم، ثانية واحدة ـ كان بعض الزملاء يعتقدون أن تلك الدقة نوع من «الحذلقة أو الحنبلية».. لم يكن الأمر كذلك. وهذه الدقة الزائدة في احترام الجداول الزمنية للعمليات الجوية يعود إلى أن الحرب الحديثة، أثبتت بتجاربها المتعددة، أن احترام الطيار المقاتل للجدول الزمني المحدد لتفاصيل مهمته القتالية ـ أمر لا فكاك منه، بل إن هذا الالتزام الحرفي هو الضمان الوحيد لنجاح المهمة التي عُهد للطيار بإتمامها..وربما كان احترام الطيار المقاتل لهذا الجدول الزمني، هو مفتاح النجاة، لا بالنسبة له وحده، بل بالنسبة لقواته الجوية بأسرها. لا أبالغ حين أقول إن تأخر الطيار دقيقة واحدة أو تقدمه ـ عن الموعد المحدد له ـ قد يتسبب في حدوث كارثة على المستوى الاستراتيجي للشعب الذي سلم للطيار أمانة الدفاع عن سمائه ضد العدو الجوي.

في الساعة 9.15 كنا نصعد بطائراتنا الخمس، فوق سحاب منخفض لم يتجاوز ارتفاعه ثلاثمئة متر.. بعد خمس دقائق اهتزت أجهزة اللاسلكي في طائرتي، بخبر وقع عليّ كالصاعقة. تم إبلاغي بأن القاعدة الجوية التي أقلعت منها منذ لحظات قد هوجمت. فعلتها إسرائيل إذن. قاعدتي الجوية تضرب وأنا معلق في الجو، عاجز عن صنع أي شيء. وقاذفاتنا الثقيلة التي يعرف العدو جيدًا قدرتها التدريبية الرهيبة، تُدمر الآن وهي جاثمة على الأرض لا حول لها. وأبشع من هذا.. تلك الصفوة من خيرة الرجال، الذين أجهدت نفسي، وأجهدوا أنفسهم معي ـ في تدريبهم تدريبًا متواصلاً للارتفاع بمستوى قدراتهم القتالية، استعدادًا للحظة اللقاء بالعدو.. وها هي اللحظة قد حلت.. ولكن.. في غير وقتها المناسب، وفي الظروف التي اختارها العدو، ورتب لها.. تُرى ما مصير هؤلاء المقاتلين الشجعان، الذين فاجأتهم طائرات العدو، وهم على الأرض؟

كان هذا بعد وقوع أول ضربة جوية معادية بخمس وثلاثين دقيقة كاملة. تساءلت: كيف ولماذا أضاع مركز العمليات الرئيس، هذا الوقت الثمين، دون أن ينذر باقي المطارات التي لم تكن قد تعرضت للقصف، في أولى موجات الضربة الإسرائيلية التي بدأت في التاسعة إلا الربع؟ خمس وثلاثون دقيقة بالكمال والتمام، كانت كافية لإنقاذ جزء لا يستهان به من قواتنا الجوية، بل كانت كافية ـ مع حسن القيادة وسلامة التخطيط والتوجيه لتغيير نتيجة الضربة الجوية القاصمة، وبالتالي.. تغيير سير المعارك كلها، سواء في الجو أو على مسرح العمليات البري.

يأكلني الغيظ والكمد، وأستغيث بجهاز اللاسلكي في طائرتي، ولكن الجهاز لا ينطق. لا أحد يسمعني. لا أحد يسعفني حتى ولو بأطيب التمنيات. إن مركز العمليات صامت تمامًا... وبرج المراقبة في قاعدتي الجوية التي غادرتها مع رجالي الخمسة كان هو الوحيد الذي يرد عليَّ محذًرا من الهبوط بسبب تدمير الممرات معلنًا عجزه عن إعطائي أي تعليمات بالاتجاه إلى مطار آخر يكون لا يزال صالحًا للهبوط.

مرت بنا لحظات من الصمت الكئيب، ونحن نطير بلا هدف.. إلى أين نذهب..؟.. وفي أي مطار يستقر بنا المطاف..؟.. لم نكن نعرف، ولم يكن أمامنا وقتها إلا أن نطير، ونطير حتى يُفرغ الوقود من طائراتنا.. فتقع كارثة أو معجزة.. وفجأة دبت الحياة في جهاز اللاسلكي.. اتصال من مركز العمليات... وكان يطلب طلبًا غريبًا، بدا لي وقتها، وكأنه نوع من السخرية المرة، ونحن معلقون في الجو، بلا هدف نسعى إليه، وبلا مطار نثق في بقاء ممراته سليمة وصالحة للاستقبال.

كان مركز العمليات قد ظن أنه بدأ يستجمع شتات «قدرته» على السيطرة، أو لعله فقدها نهائيًّا، فإذا به يطلب منا تنفيذ الخطة «فهد». كدت ألعن محدثي. أي «فهد» هذا الذي يطلبون مني تنفيذه، بعد أن ضُربت قاعدتي الجوية، وطائراتها على الأرض، وأنا معلق في الجو مع زملائي. ولم أجد في هذا الطلب الهازل ما يستحق عناء التفكير في مجرد الرد عليه حتى بالرفض.

كان غضبي ساعتها هائلًا، من هذه القيادة التي تذكرت فجأة ـ ولكن.. بعد فوات الآوان ـ أن هناك خطة اسمها «فهد» وأن هذه الخطة يُمكن تنفيذها، ويُمكن عن طريقها أن نلقن العدو درسًا قاسيًا.. ولكن متى.. وكيف؟ لقد ضاع الوقت.

مجددا، سيطر على الغضب، وبتفكير فوري، حسمت أمري.. هؤلاء الرجال الخمسة يجب الحفاظ على سلامتهم، والاحتفاظ بطائراتهم إن أمكن.. إن الضربة التي دمرت قاعدتنا الجوية في بني سويف تعني كذلك أن المطارات المتقدمة في القاهرة والدلتا وسيناء قد دمرت تمامًا.. ولكن لا مجال لليأس.. فلنسرع بالصعود إلى مصر العليا.. وأغلب الظن أن مطار الأقصر، لا يزال سليمًا، فليكن هو محطة الوصول، التي نلجأ إليها موقتًا، لكي نتزود بالوقود، والذخيرة اللازمة، ثم نعاود الطيران، أملاً في الإسهام بجهد في المعركة بهذه الطائرات الخمس.

أصدرت أمري بالاتجاه إلى الأقصر.. لأفاجأ بعد هبوطنا بتعذر إمدادنا بالوقود لعدم وجود المعدات اللازمة للتموين واستحالة إمدادنا بالذخيرة اللازمة، لأنه لا يوجد بالمطار ذخيرة. وضاع الوقت في محاولة استخدام وسائل بدائية لتزويد الطائرات بالوقود، وفي الاستعانة بمركز العمليات للبحث عن وسيلة لإمدادنا بالذخيرة اللازمة لاشتراكنا في المعركة، إن كانت لا تزال هناك فرصة للاشتراك فيها.

وبينما نحن في هذا الوضع المزري أقبلت الطائرات الإسرائيلية، وبدأت عليه قصف المطار. كان هناك عدد من الطائرات المدنية التابعة لشركة مصر للطيران وبعض طائرات النقل الثقيلة التابعة للقوات الجوية.. وقد بدأت الطائرات المعادية بتدمير طائراتنا الخمس القاذفة الثقيلة لكي تُفرّغ من قدرتها التدميرية ثم تحولوا إلى بقية الطائرات ومنشآت المطار لقصفها.

إن الحرب عمل مرير، مختلفة في واقعها عما يمكن أن يقرأه عنها إنسان في كتاب، أو يشاهدها في فيلم سينمائي. لقد عشت الحرب ـ في تلك الساعة الكئيبة من صباح 5 يونيو الحزين بطريقة سلبية بشعة على نفسي كطيار مقاتل... رأيت بعيني طائراتي الخمس وهي سلاحي في الحرب، تدمَّر أمامي.. على الأرض، وأنا عاجز عن استعمالها، عاجز عن حمايتها من الدمار... كانت لحظة رهيبة لا تُنسى... وأحسست ساعتها أن فؤادي يتمزق تمامًا، مثل الطائرات الخمس التي تمزقت أشلاء على أرض المطار... إن الحزن الذي شملني أنا ورجالي الخمسة لا يقدر على وصفه أو الإحساس به، سوى طيار مقاتل. فقد سلاحه مثلنا، دون أن يتمكن من استعماله.

بإرادة البقاء وحدها تحول الحزن الذي اجتاحني إلى غضب لا حدود له... ثم إلى قسَم على الأخذ بالثأر. كان احتراق طائراتنا أمام أعيننا، إهانة لا يغتفرها إلا الجبان... ولا يمحوها الثأر... لابد أن نسقي إسرائيل من نفس الكأس... ولا بد لنا مهما طال المدى، أن نجرد طياريها من سلاحهم قبل أن يتمكنوا من استعماله... ولابد أن تذوق على أيدينا مرارة تدمير طائراتها وهي جاثمة على الأرض... في ضربة جوية قاصمة، لا تعرف الرحمة ولا تسمح للخصم بالإفلات من مصيره المحتوم.

بينما تؤلمني هذه الذكرى المؤلمة، قد يكون مدهشا أن أقول إن تلك الضربة المدمرة قد سببت لنا نحن الطيارين المصريين عكس ما اعتقدت إسرائيل أنه سوف يسبب لنا. تصور العدو، أن هذه الضربة القاصمة، ستؤدي إلى حالة من اليأس، يعجز المقاتل المصري عن احتمالها، تؤدي به في النهاية إلى الإقلاع نهائيًّا، أو مرحليًّا، ولفترة طويلة ـ عن التفكير في خوض مواجهة جوية مع هذا الشبح المخيف، الذي تطلقه إسرائيل في الجو على هيئة شياطين لا يعرف أحد من أين تأتي، ولكنه يتعذب من وقع ضرباتها الملتهبة القاصمة.

هذا الحلم الإسرائيلي الكبير، تحول إلى وهم أكبر، تبدد في نفس اللحظة التي تمت فيها الضربة المفاجئة للطيران المصري.. في جميع المطارات المصرية التي تلقت الضربة الجوية، كان جميع الطيارين، الذين شاهدوا بأعينهم طائراتهم تحترق أمامهم ـ وهي جاثمة على الأرض، يرددون نفس القسَم، الذي تعاهدت عليه مع رجالي الخمسة في مطار الأقصر... الثأر... ولا شيء غير الثأر، يمحو الإهانة التي تلقاها نسور مصر، الذين حُرموا من أجنحتهم في ذلك اليوم.

لم يكن الذي احترق يوم 5 يونيو هو الجزء الأكبر من سلاحنا الجوي وحده... ولكن الذي احترق بالفعل ـ وكما أثبتت عمليات أكتوبر المجيدة ـ هو الأسلوب القديم في قيادة الطيران المصري، تخطيطًا وتنفيذًا على جميع المستويات التكتيكية والاستراتيجية.

لقد نسفت قنابل الطائرات الإسرائيلية، التي تساقطت فوق مطاراتنا يوم 5 يونيو «الشللية»... والأخطاء الكبيرة... والتستر على تلك الأخطاء... كما أنها حرقت الجهل بفنون القتال الحديث... لكي تفسح الطريق ـ دون قصد منها طبعًا لجيل جديد من الرجال... يملك العلم، والقدرة المرتفعة على التخطيط والتنفيذ على أعلى مستوى قتالي معاصر.. ويملك قبل كل شيء... الرغبة في الانتقام. ورُب ضارة نافعة. وصدق الله عز وجل، حين قال في كتابه العزيز «وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم».

أكتب هذه المذكرات انطلاقا من شعوري بالمسؤولية تجاه المواطن المصري، والقوات الجوية، والقوات المسلحة المصرية كلها. واستجابة لمسؤوليتي تجاه التاريخ والحقائق التي يجب أن يطلع عليها الجميع.

وأشعر بفداحة تلك المسؤولية منذ نبتت فكرة هذا الكتاب ـ الذي يحكي ملحمة الطيران المصري كاملة، بدءا من ضربة الخامس من يونيو العام 1967، حتى ضربة «صِدام» التي استعاد بها الطيار المصري سمعته كمقاتل جريء ومقتدر، في الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر العام 1973. إن المرجع الأساسي لذلك الإحساس هو ذلك الرصيد الهائل من الإعلام الاسرائيلي، الذي امتزج فيه قدر محدود من الحقائق، بقدر لا محدود من الأكاذيب والخيالات التي صيغت بذكاء شديد.

لقد نجح هذا الإعلام في تحويل ضربة إسرائيل للطيران المصري صباح 5 يونيو 1967 من مجرد خطة عادية ـ إذا قيست بالمقاييس العسكرية المحايدة والموضوعية ـ في إطار الظروف التي تمت خلالها الضربة على جانبي الصراع، إلى أسطورة خيالية، تروي أمجادًا خرافية لواضع الخطة «مردخاي هود» وهيئة عملياته العسكرية.

لقد عرفت تلك الضربة في الملفات السرية لوزارة الدفاع الإسرائيلية باسم «طوق الحمامة»، ويعود القدر الأكبر من النجاح الذي حققته إلى هذه الصدمة النفسية التي أصابت جماهير شعبنا المصري، وأمتنا العربية كلها، وهي ترى «أكبر قوة جوية ضاربة في الشرق الأوسط» ـ كما كانت القيادات العسكرية المصرية السابقة تُصرح دائمًا ـ تتحطم وهي جاثمة على الأرض، في ضربة سريعة لم تتجاوز منذ بدايتها في الساعة 8.45 صباحا إلى نهايتها نحو الساعة العاشرة، ساعتين فقط.

عامل آخر ساعد على إشاعة الجو الأسطوري حول ضربة إسرائيل للطيران المصري، وهو الأقاصيص والحكايات المبالغ فيها كثيرًا، التي رواها الجنود العائدون ـ على أقدامهم - عبر سيناء، تنفيذًا لقرار الانسحاب الذي أصدرته القيادة العسكرية للقوات البرية في الوقت الذي فقدت فيه هذه القوات أي حماية جوية، فأصبحت خلال عمليات الانسحاب المتسرع غير المنظم، مكشوفة تمامًا للعدو الجوي، ومعرضة لطيرانه الذي أسكرته نشوة النصر المذهل ـ حتى بالنسبة لأكبر المتفائلين في قيادة الطيران الإسرائيلي ـ فمضى الطيارون الإسرائيليون يعربدون في سماء سيناء، ويعبثون بالقوات البرية المصرية العائدة... وهم في مأمن من أي حساب أو عقاب رادع.

يُضاف إلى ذلك عامل أخير، لعله في تقديري، أخطر هذه العوامل جميعًا، وهو تلك الأعداد الهائلة من أبناء مصر ـ سكان مدن القناة ـ الذين تحولوا مع تصاعد العمليات القتالية على جبهة السويس إلى مُهجرين، موزعين في معظم مدن مصر وقراها... وما حمله معهم هؤلاء الإخوة من قصص العدوان الإسرائيلي المتغطرس، والذي كان طيران إسرائيل يمثل رأس الحربة في كل عملياته.

إن رؤية المواطن المستقر في داره وعمله، وسط أهله وأصحابه الذي عاش عمره بينهم، لأخ له في الوطن، وقد أُرغم على ترك مسقط رأسه ومسرح حياته العملية والاجتماعية، ثم تحول رغمًا عنه ـ وتحت وطأة عمليات عسكرية عدوانية ـ إلى مُهَجر يعيش في معسكر أو مخيم، ويعيش على إعانة مهما تعاظم قدرها، فهي بالقياس إلى دخله الأصلي محدودة، ودون ما اعتاد أن ينفق على نفسه وذويه. هذه الصورة القاسية، حين يشاهدها المواطن المصري ـ ويسمع بها أو يراها الإنسان العربي ـ بعد 5 يونيو 1967، كان لها فعل السحر الأسود في نفسه، وربما بعثت إلى ذهنه ووجدانه على الفور، بصورة مماثلة طالما قرأ عنها أو سمع بها العام 1948، حين نجحت إسرائيل عشية إعلان قيامها كدولة، في طرد الملايين من عرب فلسطين وأصحابها الشرعيين، وتحويلهم إلى لاجئين يعيشون في المخيمات، على صدقات المجتمع الدولي.

وقد تضافرت مع هذه العوامل في تحقيق الهدف النهائي، الذي سعى الإعلام الإسرائيلي عقب 5 يونيو إلى تحقيقه في نفسية الإنسان العربي، وهو التهويل لهذه العملية العسكرية التي لا تخرج في التحليل العلمي عن منهج من الفكر العسكري الألماني والإنكليزي ـ مع بعض الإضافات اليسيرة التي تتفق مع طبيعة وتكوين العقلية العدوانية المسيطرة على قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ـ وحصيلة كل هذا، أن تحول الطيران الإسرائيلي إلى خرافة وتحول الطيار الإسرائيلي إلى شبح، تنسج مخابرات العدو حوله الأساطير، وتشيعها عبر أجهزة الإعلام العالمي.

وإذا كنا ـ نحن العرب بوجه عام والمصريين بوجه خاص ـ نعيب على الإسرائيليين... عسكريين وساسة، تلك المستويات الرهيبة من الغرور والغطرسة التي لا تطاق، والتي استولت عليهم فكرًا وسلوكًا، عقب انتصارهم المفاجئ والمذهل، الذي حققوه بأبخس الأثمان، فإننا لا نرضى لأنفسنا ـ نحن المصريين بالذات ـ أن يؤخذ علينا ما عبناه على خصمنا... فنستسلم لنشوة النصر الذي حققته قواتنا المسلحة ـ بجميع أفرعها ـ يوم 6 أكتوبر، بحيث قضت في ست ساعات على أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، فإذا به، بشهادة العدو قبل الصديق، وبعد ست ساعات فقط يترنح من هول الضربات التي كالها له المقاتل المصري جوًّا وبرًّا وبحرًا.

ومع يقظتنا الكاملة لهذا المنزلق العاطفي الخطر، الذي يمكن أن يجرنا إليه الإحساس القوي بالنصر الساحق الذي زلزل كيان العسكرية الإسرائيلية... فإننا ـ مع كل التواضع الذي تمليه الثقة الكاملة بالنفس، والإيمان الراسخ بالقدرة القتالية الهائلة للجندي المصري ـ لا يسعنا إلا أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهي أن إسرائيل تؤمن إيمانًا راسخًا، بأن عدوها الأول، وخصمها الأخطر شأنًا، والأثقل وزنًا... هو مصر... وشعبها الأمين... ذلك الشعب الذي ظل ثابتًا على أرضه كالطود الراسخ يحمي حضارته التي زرعها في وادي النيل، وحماها ضد موجات الغزو الأجنبي، التي تكسرت على شاطئ صلابة المصريين طوال عصور التاريخ القديم والوسيط الحديث.

منطلقان يدفعاني إلى الانتباه إلى ذلك العداء المتأصل:

الأول عسكري بحت، تمثل في تكثيف الضربة الموجهة إلى جيش مصر وطيرانها، بحيث أدى هذا التكثيف في حجم الضربة والعناصر التي استخدمت فيها ـ حيث ألقت إسرائيل بكل ثقلها العسكري تقريبًا جوًّا وبرًّا على الجبهة المصرية ـ إلى إحداث شلل مفاجئ في القيادة المصرية. إن هذا أدى مع عنصر المفاجأة إلى ما أدى إليه من هزيمة ساحقة، وغير طبيعية في نفس الوقت، خرجت بها مصر مهزومة من معركة لم تقم في الواقع... وكانت النتيجة الحتمية، بعد أن خلا مسرح العمليات من الوجود المصري الذي تحسب له إسرائيل ألف حساب، أن تفرغت العسكرية الإسرائيلية لبقية أطراف الصراع، على الجبهتين السورية والأردنية، وهي واثقة تمامًا من تحقيق النصر، بعد أن فرغت من خصمها الألد، وعدوها الأخطر... مصر وجيشها.

المنطق الثاني أخذ شكل الحرب النفسية المسعورة، التي شنها الإعلام الإسرائيلي بلا هوادة أو رحمة، واستهدف بها تحطيم معنويات الإنسان المصري ـ باعتباره الركيزة الأولى في الصراع «العربي ـ الإسرائيلي»، فإذا نجح هذا الإعلام في زعزعة هذا الإنسان المصري، وخلخلة بنائه النفسي الصلب، فإنه يفقد ثقته بنفسه وثقته بقواته المسلحة، وبقدرة هذه القوات على شن هجوم مضاد، لتحرير أرضه المحتلة، وبالتالي ينهزم نفسيًّا حتى النخاع، بعد هزيمة عسكرية لا مجال للتشكيك فيها... ومن ثم سينطوي على نفسه، ثم.. تتجه حركته ـ إذا قُدر له أن يتحرك ـ في اتجاهين مدمرين.. أولهما: فقدان الثقة في قيادته السياسية، التي انتهت به إلى هزيمة ساحقة، وما يتبع فقدان الثقة من تمزق وانفجارات تؤدي في النهاية إلى انهيار الجبهة الداخلية التي أذهلت كل الخبراء والمحللين العالميين بصلابتها الأسطورية العام 1967 وما تلاها من سنوات الصمود.

إن الخطر الأكثر تدميرًا هو موقف الإنسان المصري في قضية الصراع «العربي ـ الإسرائيلي» كان يُكمن في احتمال عاشت إسرائيل ولعلها لا تزال تحلم به، بأن تؤدي الخسائر التي مُني بها الشعب المصري كنتيجة حتمية لضربة 5 يونيو، إلى وقوفه موقف المتشكك المرتاب في القضية كلها، وأن ينتهي به هذا الموقف المتردد، إلى رفض كامل في النهاية، يعقبه انعزال مصر عن القضية برمتها.. وتلك أعذب أمنيات الفكر الإسرائيلي.. أن تنجح في الوقيعة بين الإنسان المصري وبين أمته العربية جمعاء، وقيعة تنتهي إلى انعزال مصر.. وخروجها من حلبة الصراع نهائيًّا، لكي يخلو الجو لإسرائيل، تعربد فيه كما تشاء، وتصنع بالمنطقة ما تريد... وتعيد رسم خريطة المشرق العربي على هواها.

لعل هذا يفسر لنا ضراوة الإعلام الإسرائيلي في هجومه المخطط المدروس بإحكام ودقة بالغين، على عقل الإنسان المصري وعاطفته معا، هجومًا استخدمت فيه كل وسائل الإعلام الحديث، وجندت له كل أساليب الحرب النفسية الحديثة.

عشرات الكتب والمؤلفات التي تتحدث عن «حرب الأيام الستة» ـ قدمت لها وزارات الدفاع والخارجية والإعلام الإسرائيلي كل الإمكانيات والتسهيلات... الوثائقية والمادية وعشرات الأفلام ـ التسجيلية والروائية ـ التي تم إنتاجها ببذخ خرافي، وبحرفية سينمائية بالغة الدقة والذكاء، تصور كلها بطولات جيش الدفاع الإسرائيلي، وتتغنى بأمجاد «طيران إسرائيل».. ذراعها الطويلة ذات المخالب الجهنمية القادرة على سحق أي هدف في أعمق أعماق الوطن العربي... خصوصا في ربوع خصمها اللدود الخطير... مصر... مئات ـ ولا نبالغ إذا قلنا آلاف ـ المقالات والأبحاث العلمية.. والندوات التي تنشرها ـ أو تذيعها وتعرضها ـ وسائل الإعلام يتغنى كتابها ومذيعوها «المحايدون» ـ كما يسمون أنفسهم ـ بأمجاد العسكرية الإسرائيلية، من ناحية، ويسخرون بهزال العرب وضعفهم وتخلفهم من ناحية أخرى.

ثم.. أخيرًا وليس آخرًا... هذا السيل الرهيب من الأقاصيص المصنوعة ـ داخل مكاتب المخابرات الإسرائيلية ـ عن بطولات رهيبة، وقدرات أسطورية لجيش «الدفاع» الإسرائيلي وطيرانه الرهيب. ولعل هذا اللون الأخير من ألوان الحرب النفسية التي شنها العدو ضدنا، عقب 5 يونيو، كان أخبث وسائله على الإطلاق، لأنه كان يسعى إلى تحقيق هدفين واضحين منذ البداية... غرس الفزع في نفس الإنسان المصري ـ مدنيًّا كان أو عسكريًّا ـ من هذه المقولة الخرافية «الذي لا يُهزم أبدًا»... ثم قتل الثقة والاحترام اللذين يكنهما المواطن المصري لجيشه... عن طريق سيل متلاحق من النكت المرة التي تسخر من المقاتل المصري ومن قدرته على الصمود في الميدان.. وعجزه عن مواجهة المقاتل الإسرائيلي، سواء تمت هذه المواجهة على الأرض أو في السماء.

من الحقائق المسَلم بها ـ في الفكر العسكري... قديمه وحديثه ـ أن العدو الذي ينجح، عن طريق الحرب النفسية، في نشر الفزع في صفوف المدنيين على الجهة المعادية، ثم تصعيد هذا الفزع، إلى احتقار للجيش الوطني والسخرية منه وعدم الثقة به... يضمن في النهاية النصر الكامل والساحق لقواته عند أول مواجهة له مع الخصم الذي نجح في تدمير معنويات شعبه.

هذه الحقيقة التي جرت الآن، مجرى البديهيات في الفكر العسكري، كانت نقطة البداية ـ كما سيتضح في تلك المذكرات ـ عندما تحركت العسكرية المصرية بقيادتها الجديدة ـ بعد 5 يونيو مباشرة ـ لتحقيق الصمود النفسي أولا للمقاتل والإنسان المصري... قبل أي خطوة على الطريق الشاق الطويل الذي انتهى إلى معارك السادس من أكتوبر المجيد.

ورغم ما حققه جيش مصر البطل ـ بكل أنواعه وأسلحته ـ من بطولات في السادس من أكتوبر، تعتبر كما قال الرئيس الراحل محمد أنور السادات «معجزة عسكرية بأي مقياس من مقاييس الفكر العسكري» فإن ضراوة الحرب النفسية التي شنها علينا العدو ـ عقب 5 يونيو وقبل 6 أكتوبر ـ كانت مثار اهتمام كل مصري، سواء في أعلى مستوى من مستويات القيادة السياسية والعسكرية.. أو لدى المواطن المصري العادي.

كنا كعسكريين نعرف جيدًا على الطبيعة ـ ودون تأثر بعوامل التحامل أو التحيز الوطني ضد عدونا، أو لصالح قواتنا المسلحة ـ أن ما حدث في 5 يونيو، ليس معجزة مطلقًا، ولا هو خارقة من الخوارق التي تستحيل مجاراتها أو اللحاق بها... وكانت القيادة العسكرية المصرية، التي تولت مسؤولية وشرف الإعداد للسادس من أكتوبر، تعرف بحكم دراساتها العليا، وتمكنها من فنون الفكر العسكري ـ سواء في معاهد الغرب أو الشرق ـ أن ما حدث في معارك 5 يونيو، مجرد استغلال جيد، لظروف معينة وجدت على جانبي جبهة الصراع، وهو أمر لا يشكل عبقرية عسكرية، ولا يستأهل كل ما نُسج حوله من أساطير وخرافات، بلغ من شيوعها، أن الإسرائيليين أنفسهم وهم الذين صنعوها لكي يرعبوا بها العرب ويخدروهم عن واقعهم، وقعوا في المصيدة نفسها، والتقطوا بغباء غريب عليهم فعلًا، الطعم نفسه الذي أجهدوا خبراءهم في صنعه واختلاقه لكي تلتقطه شعوب الأمة العربية، وفي مقدمتها شعب مصر.

ولقد وصل بهم خداع النفس ـ القائم على الغرور والغطرسة والاستسلام دون وعي لنشوة النصر غير الطبيعي... بينما قادة إسرائيل يعرفون بينهم وبين أنفسهم أن نصرهم في 5 يونيو... كان غير طبيعي في مجمله.. أقول: وصل بهم خداع النفس... إلى الحد الذي دفع بأحد قادتهم العسكريين الكبار، رئيس الأركان دايفيد إليعازر إلى أن يصرح قبيل 6 أكتوبر، للصحافة العالمية، بأن «البحر الأحمر قد أصبح ـ بفضل الطيران الإسرائيلي.. ذراع إسرائيل الطويلة القوية ـ إلى بحيرة إسرائيلية... وعلى العرب جميعا أن يوطنوا أنفسهم على هذا كأمر واقع يتصرفون على ضوئه».

لو أننا وزنا هذا التصريح لقائد عسكري كبير ـ مفروض فيه أنه يحترم نفسه ويحترم كلامه ـ بموازين الفكر العسكري السليم وقواعده العلمية لوجدنا أنفسنا أمام احتمالين لا ثالث لهما:

الأول: أن يكون «إليعازر»، حين ألقى بهذا التصريح قد استوثق تمامًا من وصوله بقواته ـ بجميع أسلحتها ـ إلى المستوى الذي يستحيل معه أن تلحق بها أي هزيمة عسكرية، سواء من حيث مستوى الإعداد والتدريب، أو من حيث مستوى التسليح كمًّا وكيفًا... كما أن عليه في الوقت نفسه أن يستوثق ـ عن طريق استخباراته العسكرية ـ من أن قوة خصمه لم تتصاعد بأي حال، إلى المستوى الذي يُشكل لجيشه تهديدًا أو شبه تهديد عند حدوث أي اشتباك.

وإذا صح للقائد العسكري ـ الذي يحترم نفسه، ويحترم عقل قواته ـ أن يفاخر بارتفاع قدراته القتالية، فإن مسؤوليته كقائد ومفكر عسكري، تفرض عليه أن يتناول كل ما يتصل بخصمه بحذر شديد، لأن التجارب العملية أثبتت دائمًا، أن أي خصم مهما كان شأنه، عنده دائمًا ما يخفيه عن أكثر العيون قدرة على التلصص، وأكثر الآذان تدريبًا على التسمع. فإذا أغفل القائد العسكري، هذه الحقيقة البسيطة، فقد وضع بنفسه أول طوبة في بناء بشع اسمه... الفشل.

الاحتمال الثاني: الذي يمكن تفسير كلام القائد الإسرائيلي على ضوئه، أن تكون أجهزة الحرب النفسية في إسرائيل، قد وصلت في ممارستها في مهمتها ضد العرب عمومًا ـ ومصر وشعبها خصوصًا ـ إلى درجة التشبع، بحيث تحولت بمهامها الدعائية ـ دون أن تدري ـ إلى عقول القادة الإسرائيليين أنفسهم، فإذا بهم يصدقون الأكاذيب التي اختلقوها حول القوة الأسطورية لجيشهم الذي لا يُغلب... وإذا بكبيرهم ـ في ذلك الوقت ـ «دافيد إليعازر» يدلي بتصريحه الغريب.

ولم يكن إليعازر وحده الذي أُصيب بحمى الغرور، فقد كان هناك سباق عجيب بين قادة إسرائيل ـ العسكريين والسياسيين على السواء ـ في إلقاء مثل هذه التصريحات الخالية من أي تعقل، لو وزناها بأي ميزان فكري سليم على المستويين العسكري والسياسي.

إن «حاييم بارليف» ـ صاحب الخط الشهير الذي أنفقت إسرائيل على إقامته وتحصينه مئات الملايين من الدولارات.. ثم.. انهار بعد ساعات ست من الضربات القاسية التي كالها له المقاتل المصري الشجاع المدرب جيدًا، المسلح جيدًا - «حاييم» هذا، يصرح يوم 5 فبراير 1971 لوكالة الأنباء الفرنسية، بقوله: «ليس لدى المصريين أدنى فرصة للنجاح، إذا هم حاولوا عبور القناة، من المؤكد أن لديهم الوسائل اللازمة لمثل هذه المهمة، ولديهم خطط للعمل، ولكن ما ينقص مصر... هو الجيش الذي يستطيع أن يخطط... وينفذ... ويقاتل».

ثم يعود في 8 مارس العام 1973 ليصرح بقوله: « أقول باختصار إذا استأنفت مصر القتال، فإن إسرائيل لن تخسر موقعًا واحدًا».

وقد كان «موشى ديان» فيلسوف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، الذي تحطم هو وكل نظرياته عن «الأمن الإسرائيلي» فوق صخرة 6 أكتوبر، يؤكد دائمًا وفي كل مناسبة بأن «مصر لن تحارب قبل عشر سنوات إذا هي فكرت في الحرب فعلا».. وهو أيضًا القائل: «إن الجبهة المصرية لا تستحق من جهد جيش إسرائيل أكثر من ستين دقيقة».

أعود الآن إلى عدد من تلك التصريحات التي كان يكررها من حين لآخر، في سياق تعاليه وغروره. ففي الثاني والعشرين من نوفمبر العام 1969 أعلن ديان في مؤتمر صحافي: «إن خط بارليف منيع مستحيل اختراقه، إننا أقوياء لدرجة تكفي لكي نحتفظ به إلى الأبد، وأي عملية عبور مصرية ـ إذا حدثت ـ ستلقى الرد الحاسم، ولن تؤثر على قبضة إسرائيل الحازمة على خط بارليف».

وفي 18 نوفمبر العام 1970، أعلن «ديان» أمام الكنيست الإسرائيلي بأنه «إذا فضل المصريون استخدام القوة وعبور قناة السويس، فإنني أعلن أن قواتهم ستتحول إلى رماد».

وفي 26 مايو 1971، أذاعت وكالة أسوشيتدبريس العالمية هذا التصريح الذي أدلى به موشى ديان: «إذا حاول المصريون الإقدام على مخاطرة العبور، فإن هزيمة دموية في انتظارهم، وحتى أصدقاؤهم يعلمون أنهم لم يصلوا إلى مستوى القتال».

وفي 19 سبتمبر العام 1971، أذاعت الوكالة الفرنسية برقية لوزير الدفاع الإسرائيلي: «إذا حاولت مصر عبور القناة، فسوف تتم إبادة قواتها... و... سيواجه الجيش المصري كارثة مؤكدة».

وفي الزيارة التي قام بها «ديان» للولايات المتحدة، في أوائل العام 1972، تناقلت وكالات الأنباء العالمية تصريحه الذي قال فيه: «إنني أحذر المصريين من الهلاك... إذا أطلقوا النار...».

وأخيرًا يأتي هذا التصريح الذي لا يحتاج إلى شرح أو تفسير لمدلوله.. وهو التصريح الذي أدلت به «جولدا مائير» ـ رئيس وزراء إسرائيل قبيل وأثناء معارك السادس من أكتوبر: «إذا كان أنور السادات عاجزًا عن الحرب، وإذا كان يعلم تمامًا، أن الهزيمة الساحقة المنكرة هي النتيجة المحتومة.. فلماذا لا يقبل المفاوضة مع إسرائيل!».

هذا السيل المتلاحق من التصريحات ـ الذي بدأ كثمرة لتخطيط مدروس لقواعد وأسس الحرب النفسية، وانتهى كنتيجة طبيعية لاستسلام قادة إسرائيل وساستها لحمى الغرور التي أصابتهم عشية نصر 5 يونيو، وتصاعدت حرارتها إلى درجة الهوس.. هذه التصريحات كانت قيادتنا العسكرية والسياسية ـ على السواء ـ تردها إلى حجمها الطبيعي، انطلاقًا من معرفتنا الحقيقية بما عند العدو من إمكانيات، وثقتنا الكاملة في سلامة الطريق الذي كنا سائرين فيه، خطوة خطوة.. بحذر وتأنٍ، ولكن بإصرار وتصميم وتتابع، لا يعرف المستحيل، ولا يتوقف أمام الصعاب مهما تعاظمت.

ومن هنا.. فلم تكن هذه التصريحات تعني عند العسكرية المصرية، سوى معنى واحد.. أنه حدثت بالتدريج، ومن دون قصد من العدو ـ وبقصد كامل من جانبنا ـ عملية تبادل للمواقع النفسية. وإذا سلمنا بأن السلوك البشري ـ كما هو في الواقع والتحليل العلمي ـ رد فعل عملي للدوافع النفسية.. والاقتناعات العقلية.. فإن تصريحات قادة إسرائيل بكل صلفها وغرورها، كانت تعني بالنسبة لنا نحن المصريين، أننا ـ قبيل معارك 6 أكتوبر ـ قد نجحنا في تبادل المواقع النفسية التي كنا نحتلها ـ قبل 5 يونيو ـ فتركنا موقع الغرور والتفاخر والمظاهرات السياسية الهوجاء للإسرائيليين، وأخذنا بدلًا منها موقع الحذر، والعمل الدائب في صمت، والتخطيط العلمي المدروس في الخفاء.

كانوا يدركون قوتهم، ويبالغون في إحساسهم بهذه القوة في الإعلام ـ بل الإعلان - عنها... وكنا نصمت غالبًا... وإذا اضطررنا للكلام، فبالقدر الذي لا يشيع اليأس في نفس المواطن المصري والعربي، ولكنه لا يساعد في نفس الوقت على تنبيه العدو إلى مستوى خطر ـ بالنسبة له ـ من مستويات التدريب أو التسليح، نكون قد نجحنا في تحقيقه.

وكانت حمى التصريحات التي انتابت قادة إسرائيل، متفقة تمامًا مع الأهداف الخفية للعسكرية المصرية، ولكن خطرها الذي كنا نعمل له ألف حساب، هو تأثيرها على المواطن المدني، الذي لا يعلم ما نعلمه نحن ـ العسكريين ـ سواء بالنسبة لقوة العدو، أو لقوتنا المتزايدة باستمرار.

ومن هنا كان الإحساس الخطير بالمسؤولية، عن ضرورة نجاح إعلامنا العسكري بالذات في تحقيق المعادلة الصعبة التي تتمثل في الاستمرار في خداع العدو المغتر بقوته، المنتشي بنصره السريع في 5 يونيو 1967، مع الحفاظ في نفس الوقت على الدعائم الضرورية لسلامة نفسية المواطن المدني، والاحتفاظ له بالقدر الكافي من الثقة في قواته المسلحة، ثقة تصد عنه الهجمات الضارية التي تشنها عليه أجهزة الحرب النفسية لدى إسرائيل.

وللحقيقة والتاريخ، فقد كانت تلك عملية شاقة على جميع الأطراف.. سواء بالنسبة لأجهزة الإعلام عامة، والإعلام العسكري خاصة.. أو بالنسبة للمواطن المصري، الذي استمد من شجاعته وصلابته الأصيلة، القدرة على الصمود في مواجهة الحرب الدعائية للعدو، وعدم الاستسلام للسموم الخبيثة التي كانت أجهزة العدو المدربة، تبثها بجميع الوسائل المستحدثة.

وأخيرًا... حلت ساعة الصفر، التي استبعد العدو مجيئها، بينما عاشت الملايين في مصر والأمة العربية كلها، تتحرق شوقًا للقائها.. وفي الساعة الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر العام 1973، وتنفيذًا لأمر القائد الأعلى الرئيس السادات، عبرت مئتان وعشرون من طائراتنا القاذفة الثقيلة، والقاذفة، والقاذفة المقاتلة، عدا طائرات الحماية والاعتراض.. عبرت كلها وفي ثانية واحدة، وطبقا للخطة، «صِدام» الخط «س» في نفس اللحظة، لتنطلق بعده إلى مواقع العدو وشرقي القناة... كي ترد له الدين الذي فاجأها به منذ ستة أعوام في الخامس من يونيو العام 1967.

وفي الثانية والثلث ـ وبعد مضي عشرين دقيقة تقريبًا، كنت في غرفة العمليات، أستقبل، «التمام» من مختلف القواعد الجوية، لكي أعيد إبلاغه في نفس اللحظة للقائد الأعلى في غرفة العمليات المركزية.. لقد نجحت الضربة «صِدام» في تحقيق أهدافها ضد العدو بنسبة تجاوزت 95 في المئة ولم تتجاوز خسائر قواتنا الجوية في هذه العملية المركزة، نسبة 1 في المئة فقط، رغم أن عدد الطائرات المشتركة فيها قارب الثلاثمئة.. وهي نتائج تعتبر وسام شرف لأي قوة جوية في العالم، لأنها حطمت جميع الأرقام القياسية العالمية السابقة، سواء في عدد الطائرات المشتركة في ضربة واحدة.. أو في نسبة تحقيق الأهداف ضد العدو، أو هبوط نسبة الخسائر بين القوة المهاجمة.

وبمجرد أن تأكدت القيادة العليا، من نجاح الضربة الجوية المكثفة «صِدام» دارت آلة الحرب الجهنمية، وتحركت جحافل المقاتلين المصريين تعبر القناة، وتلتحم بجنود الجيش ـ الذي كان لا يُقهر. وتتوالى المعارك لتؤكد بطولة وفعالية المقاتل المصري ـ الذي يشعر بالأمن والثقة لأن قواته الجوية، التي أخذت الدرس والعبرة من أخطاء 1967، قد صممت على الانتقام.. ولقد اعترف العدو نفسه، وشهد العالم أجمع.. المراسلون الحربيون، والخبراء العسكريون، بأن الطيار المصري المقاتل، أثبت وجوده بجدارة وفاعلية ـ خلال معارك أكتوبر ـ سواء في الضربة الأولى التي فاجأت العدو وحطمت له مراكز القيادة والسيطرة، ومراكز الإعاقة والتشويش، ومواقع بطاريات الصواريخ «هوك» المنتشرة شرقي القناة، أو في طلعات المعاونة الجوية للقوات البرية في زحفها المنتشر على أرض سيناء، أو في معارك الاعتراض والقتال الجوي، ضد طيران العدو، الذي حاول اختراق مجالنا الجوي طوال أيام القتال.

في كل هذه المجالات، كان الطيار المصري المقاتل، حريصًا على أن يكتب بعرقه ودمه ـ بل بحياته شهيدًا ـ لوحة جديدة في ملحمة الطيران المصري، التي كانت بدايتها صدمة 5 يونيو 1967، ونقطة الوصول السعيدة ظهر السادس من أكتوبر 1973.

وهنا أستطيع أن أجيب عن السؤال الذي طرحته في بداية هذه المقدمة.. هذا الكتاب.. لماذا..؟!.

لقد عمدت أجهزة الإعلام الإسرائيلية عشية «حرب الأيام الستة» ـ كما سموا معارك 5 يونيو ـ إلى التهويل الأسطوري الذي يقترب من حد الخرافة، في حديثهم عن الضربة الإسرائيلية للطيران المصري.. ولولا صلابة الإنسان المصري عقلا وعاطفة، لانهار بناؤه النفسي

عدد مرات القراءة:2014

ارسل هذا الخبر
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر

يرحب الموقع بآراء الزوار وتعليقاتهم حول هذه المادة تحديداً، دون الخروج عن موضوع المادة، كما نرجو منكم عدم استعمال ألفاظ خارجة عن حدود اللياقة حتي يتم نشر التعليق، وننوه أن التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الموقع.
الاسم:

التعليق:

  • الاخبار اليمنية
  • صحيفة الاوراق
  • من الذاكرة السياسية ... حتى لاننسى
  • بدون حدود
  • شاهد فيديو مثيرللاهتمام
  • طلابات توظيف
  • تغطية خاصة من جريدة اوراق لمؤتمر الحوار الوطني
  • حماية البيئة
  • الدين ورمضانيات
  • اراء لاتعبرعن اوراق
  • منوعات وغرائب
  • خارج عن المألوف
  • الاقتصاد
  • اخبارتنقل عن المفسبكين وتويتر
  • ثقافة وفن
  • اوراق سريه
  • العالم
  • الرياضية