الجهاز المصرفي في صنعاء اصبح أوكارًا لممارسة الربا الفاحش في صورته البشعة.
صحيفة الاوراق. العدد اغسطس
بعد مرور قرابة خمسة أشهر على إصدار سلطة صنعاء قانون منع التعاملات الربوية، تبرز أسئلة مشروعة عن مدى تأثير التنفيذ القسري لذلك القانون على أداء النظام المصرفي في مناطق سلطة صنعاء، وعلى مستوى أداء الأطراف الفاعلة فيه: البنك المركزي، البنوك التجارية والإسلامية، المدخرون، المستثمرون، وشركات الصرافة وغيرهم، وعن الأدوات والوسائل المبتكرة من تلك الأطراف في تسيير العمليات المالية والمصرفية، وعن مدى تطور أو تدهور الملاءة المالية أو الجدارة الائتمانية لمؤسسات الجهاز المصرفي.
كل تلك الأسئلة تفرض الحاجة الماسة إلى ضرورة تقييم أداء الجهاز المصرفي وتوضيح المسار الذي يمر به، ومعرفة السياسات والإجراءات المتخذة لإعادة هيكلة عمل البنوك، والبرامج المتّبعة لتدريب العاملين في البنوك وبناء قدراتهم العلمية والعملية في تطوير العمل المصرفي، ودور البنك المركزي في ضبط إيقاع عمل البنوك وممارسته للرقابة المصرفية الفعّالة في ضوء مواد ونصوص ذلك القانون.
ورغم أنّ إصدار القانون المذكور كان بمثابة القفز إلى المجهول، فإنّ سلطة صنعاء، للأسف، تعاملت مع تأثيره ونتائجه وتقييمه وفق سياسة "لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم"، فقد حاولت المؤسسات الممثلة للبنوك وللغرف التجارية والصناعية أو مراكز الدراسات التواصل مع الجهات الرسمية لعقد ندوات أو حلقات نقاش حول التداعيات الكارثية لتنفيذ قانون كهذا والعمل على مراجعته بما يحسّن من أداء الجهاز المصرفي، ولكن تلك الدعوات قوبلت بالرفض والإنكار والزجر بعدم المناقشة للقانون وتبعاته.
ومن خلال متابعة ما يجري بالجهاز المصرفي من تعاملات بين البنك المركزي والبنوك وصناديق التقاعد أو بين البنوك والمدخرين (المودعين) من جانب، والمستثمرين "المقترضين" من جانب آخر، يتضح بجلاء أنّ نتائج تنفيذ القانون المذكور لم يترك لمؤسسات الجهاز المصرفي أي خيار لإدارة أعمالها وأنشطتها بطرق سليمة، ودفعها لأن تصبح أوكارًا لممارسة الربا الفاحش في صورته البشعة التي كانت سائدة في العصور المظلمة لأوروبا في فترة القرون الوسطى عبر المرابين اليهود، والتي جسّدها (وليام شكسبير) في روايته المشهورة (تاجر البندقية)، ولتوضيح الصورة يمكن استعراض بعض الأمثلة للأدوات 'المبتكرة" في المعاملات المالية بين مختلف الأطراف في الجهاز المصرفي.
كبيرهم الذي علمهم
يقف البنك المركزي على قمة الجهاز المصرفي، فهو المسؤول عن إصدار التشريعات والقوانين والتعميمات المنظمة للعمل المصرفي، كما أنه المسؤول عن الرقابة المصرفية على البنوك التجارية والإسلامية وبنوك التمويل الأصغر وشركات الصرافة، ورغم ذلك، فكل المؤشرات تدل على أنّ دوره في صياغة وإصدار قانون منع التعاملات الربوية كان مجهولًا، كما أنّ دوره يكاد يكون غائبًا في معالجة الآثار المدمرة للقانون على أداء البنوك، بل يمكن القول إنه ابتدع أدوات وآليات لتسوية المعاملات المالية تجعله المرابي الأول في الجهاز المصرفي.
قانون منع التعاملات الربوية أعفى البنوك من دفع الفوائد على ودائع المدخرين، كما ألغى الفوائد على القروض التي قدّمتها البنوك للمستثمرين والتجار وغيرهم، وهو بذلك قضى على الثقة المتبادلة بين البنوك والمودعين من جانب، وبين البنوك والمقترضين من جانب آخر، ومعنى هذا إلغاء الوظيفة الأساسية للبنوك، وهي القيام بالوساطة المالية بين المدخرين والمستثمرين.
فقد نص قانون منع التعاملات الربوية على إلغاء العمل بعدد من مواد قانون البنك المركزي رقم (14) لعام 2000، والتي تشير إلى عدد من المهام والأنشطة المتضمنة فوائد أو عمولات يحصل عليها البنك المركزي، وتمثل أهم مصادر دخله، ولم يقدم القانون بدائل فنية وسليمة للبنك المركزي للقيام بالمهام والصلاحيات المقرة في قانونه، وهذا يعني تحويل البنك المركزي إلى مؤسسة معاقة ومكبلة، ويقود حتمًا إلى الإعسار المالي للبنك.
الجدير بالذكر، أنّ قانون منع التعاملات الربوية تضمن مادة عجيبة وغريبة، وهي المادة (5)، والتي تنص على أنه "لا يعد بحكم الربا الحكم بفارق سعر العملة عند استحقاق المبيع ونحو ذلك في معاملة مدنية أو تجارية، وكذلك الحكم بفارق سعر العملة على المدين المماطل بالوفاء وفقًا للشروط المحددة في المادة (6) من هذا القانون". وبموجب هذه المادة تحول البنك المركزي والبنوك الأخرى إلى سماسرة ومضاربين في فارق سعر العملة، وأصبح ذلك عمود نشاطهم في تسوية المدفوعات مع كلٍّ من الدائنين والمدينين.
ومعلوم، أن كل البنوك التجارية والإسلامية وصناديق التقاعد تحتفظ بأرصدة مالية ضخمة في حساباتها لدى البنك المركزي والناتجة عن تراكم الأرصدة الاحتياطية واستثمارات تلك المؤسسات في أذون الخزانة والسندات الحكومية والصكوك، حيث بلغت تلك الأرصدة قبل الحرب أكثر من 2.5 تريليون ريال، وتم تجميدها بحجة أزمة السيولة لدى البنك المركزي. وبسبب تنفيذ قانون منع التعاملات الربوية، تم إلغاء كل الفوائد المتراكمة لتلك الاستثمارات وبأثر رجعي، والتي بلغت أكثر من تريليونَي ريال، إضافة إلى أنّ البنوك وصناديق التقاعد لم تتمكن من استرداد أصل قيمة الأذون والسندات والصكوك، وإذا أرادت سحب جزء منها نقدًا، وفقًا لسقوف يحددها البنك المركزي، فإن على البنوك تحرير الشيكات بالمبالغ المراد سحبها لتحصل على أقل من نصف قيمة الشيكات. بمعنى آخر؛ فإن البنك المركزي يتعامل مع هذا السحب وفقًا لمبدأ "النقد مقابل أرصدة الحسابات"، ويقوم على أساس "التعامل بفارق سعر العملة"، واعتماد سعر الصرف السائد في مناطق سلطة عدن (مثلًا، 1300 ريال للدولار)، وهو أكثر من ضعف سعر الصرف السائد في مناطق صنعاء (530 ريالًا للدولار).
فمثلًا، إذا أراد أحد البنوك سحب 50 مليون ريال نقدًا من رصيده لدى البنك المركزي، فعليه تحرير شيك بمبلغ 125 مليون ريال. بمعنى آخر؛ أصبح البنك المركزي يتقاسم الأرصدة المحفوظة لديه للبنوك وصناديق التقاعد، على قاعدة التلاعب بفارق سعر العملة، إنها صورة بشعة من المراباة وسوء استغلال حاجة البنوك والصناديق لأموالها، والتربح المفرط من أموالها وأرصدتها، كما أن البنك المركزي باعتماده سعر الصرف السائد في مناطق سلطة عدن، يجعل سعر الصرف السائد في مناطق سلطة صنعاء غير حقيقي، وهذا يتناقض مع مهام وسياسات البنك الهادفة إلى استقرار سعر الصرف وعدم تدهور سعر الريال مقابل العملات الأجنبية.
ممارسات البنوك
قانون منع التعاملات الربوية أعفى البنوك من دفع الفوائد على ودائع المدخرين، كما ألغى الفوائد على القروض التي قدمتها البنوك للمستثمرين والتجار وغيرهم، وهو بذلك قضى على الثقة المتبادلة بين البنوك والمودعين من جانب، وبين البنوك والمقترضين من جانب آخر، ومعنى هذا إلغاء الوظيفة الأساسية للبنوك وهي القيام بالوساطة المالية بين المدخرين والمستثمرين، ولم يترك القانون أي خيار أمام البنوك التجارية والإسلامية وبنوك التمويل الأصغر لممارسة أي نشاط ائتماني؛ لأنه جرّم الفائدة أو العائد، وأيًّا كان مسمى الفائدة (فائدة أو مساهمة أو أرباح أو عمولة أو منفعة)، ولم يعد أمام البنوك سوى خيارٍ واحدٍ، وهو السمسرة والمتاجرة بالعملة، فقد عزز القانون المذكور هذا النوع من النشاط، وفقًا للمادة (5) المشار إليها سلفًا، كما أنّ هذا النوع من التلاعب بفارق سعر العملة تتّبعه البنوك في تسوية سحوبات المودعين لودائعهم، فقد استغلت البنوك هذه المادة لممارسة الربا الفاحش مع كلٍّ من المودعين والمقترضين.
أولًا- تعامل البنوك مع المودعين: وفقًا للبيانات الصادرة عن البنك المركزي قبل الحرب، عام 2014، فقد بلغ حجم الودائع ذات العائد (آجلة، ادخارية، بالعملات الأجنبية، مخصصة، ضمان اجتماعي) قرابة (2.2) تريليون ريال، وكانت تدر عوائد للمودعين بحوالي 230 مليار ريال سنويًّا، وبالتأكيد كانت تستفيد من هذه العوائد مئات الآلاف من الأُسَر، وجاء قانون منع التعاملات الربوية ليلغي تلك العوائد وبأثر رجعي، مما دفع بتلك الأسر إلى فاقة الحاجة وبراثن الفقر، وعندما توجه أصحاب الودائع إلى البنوك مطالبين باسترداد أصل ودائعهم لمواجهة نفقات المعيشة والالتزامات الدورية أو الطارئة، أفادوهم البنوك بعدم القدرة على الدفع بسبب ندرة السيولة وتجميد أرصدتهم لدى البنك المركزي، ووضعوا المودعين أمام خيارين:
- إما استلام مبلغ شهري يتراوح بين 20 إلى 50 ألفًا، حسب حجم الوديعة، وهذا المبلغ الزهيد لا يفي بأدنى متطلبات المعيشة اليومية فضلًا عن الشهرية، أو عن احتياجات طارئة، مرض، زواج، رسوم دراسية وغيرها.
- أو إمكانية استرداد مبلغ أكبر من الوديعة، وفي هذه الحالة سيكون مقيّمًا بالدولار، وبسعر صرف ضعف السعر السائد في السوق، أسوة بما يمارسه البنك المركزي، كما أنّ بعض البنوك تفرض سعرًا أعلى للدولار قد يصل إلى 2500 ريال للدولار، فإذا أراد المودع الحصول على ما يساوي 1000 دولار نقدًا من وديعته، فعليه تحرير شيك للبنك بمبلغ يسحب من وديعته بحوالي 2.5 مليون ريال، فالبنك يوفر له ذلك المبلغ بالدولار عبر التعامل بفارق سعر العملة، وعند سعر الصرف يساوي 2500 ريال للدولار، بينما سعر الصرف السائد في السوق530 ريالًا للدولار، وهنا يتجلى أبشع صور الاستغلال وممارسة الربا من البنوك تجاه المودعين، وأصبحت تستحوذ على حوالي 80% من ثروة المودعين، فأي ظلم هذا؟! وأي ربا سافرٍ تمارسه البنوك في ظل قانون يستهدف منع الربا؟!
ثانيًا- تعامل البنوك مع المقترضين: تشير البيانات لعام 2014، إلى أنّ حجم القروض والسلفيات في الميزانية الموحدة للبنوك بلغ قرابة تريليونَي ريال، تحصل البنوك على عوائد منها حوالي 440 مليار ريال سنويًّا.
واضح أنّ قانون منع التعاملات الربوية حول القطاع المصرفي إلى مؤسسات قائمة على المراباة والمضاربة بفارق سعر العملة، وتمارس أعمالًا لا تمت للعمل المصرفي بصلة، ولا بد من رد الاعتبار لتلك المؤسسات حتى تقوم بوظائفها السليمة في تحريك عجلة النشاط الاقتصادي والتجاري والاستثماري بصورة قانونية ومهنية.
ضعف ونصف قروضها، وهذا أفضل بكثير من العوائد التي كانت تحصل عليها من المقترضين قبل صدور قانون منع التعاملات الربوية، وهي محمية بالقانون الذي ينص على أنه "لا يعد بحكم الربا الحكم بفارق سعر العملة على المدين المماطل بالوفاء".
وبمقارنة ممارسة البنوك مع كل من المودعين والمقترضين، فإنهم يمارسون التطفيف بأبشع صوره، ويجسد فيهم قول الحق سبحانه وتعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (صدق الله العظيم)، وكل هذه الممارسات برزت بسبب قانون الغفلة المشار إليه سابقًا.
الاستنتاجات
- هناك قاعدة أساسية متعارف عليها في التشريع، وهي أنّ "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". ومن خلال ما ورد سابقًا، يتضح جليًّا أنّ قانون منع التعاملات الربوية قد جلب المفاسد إلى النظام المصرفي، وأضرّ كثيرًا بمصالح المتعاملين مع النظام، سواء كانوا بنوكًا أو صناديق تقاعد أو مودعين أو مقترضين.
- واضح أنّ قانون منع التعاملات الربوية حول القطاع المصرفي إلى مؤسسات قائمة على المراباة والمضاربة بفارق سعر العملة، وتمارس أعمالًا لا تمت للعمل المصرفي بصلة، ولا بد من رد الاعتبار لتلك المؤسسات حتى تقوم بوظائفها السليمة في تحريك عجلة النشاط الاقتصادي والتجاري والاستثماري بصورة قانونية ومهنية.
- إن ممارسات البنك المركزي والبنوك الأخرى بشأن التلاعب بفارق سعر العملة يعطي رسالة سلبية وغير مسؤولة للتجار بأن سعر الصرف السائد في مناطق صنعاء ليس حقيقيًّا، وأن سعر الصرف في مناطق سلطة عدن هو السعر الفعلي وعليهم تقييم أسعار السلع وفقًا لذلك السعر، وهذا ما يفسر الارتفاعات المستمرة للأسعار رغم الثبات النسبي لسعر الصرف.
- هناك حاجة ماسة لتقييم أو إلغاء قانون منع التعاملات الربوية، بسبب ما أحدثه من إرباك للبناء المؤسسي للجهاز المصرفي وتدمير للقدرات البشرية العاملة فيه، وضياع للأهداف والغايات النبيلة للجهاز المصرفي ودوره المأمول في التعافي الاقتصادي وإعادة إعمار ما دمرته الحرب العبثية.
- على البنك المركزي القيام بمسؤولياته في الرقابة المصرفية الفعالة على البنوك التي تمارس النصب والاحتيال عبر التلاعب بفارق سعر العملة للاستيلاء على ودائع المودعين، والتي تمثل كل ثروتهم لمواجهة متطلبات الحياة ومصاعبها.
كتب المقال مطهر العباسي