- توعية

- توعية
السبت, 20-مارس-2021

توعية قانونية في اليمن عدم جواز التحكيم في دعاوى التزوير اقرا لماذا؟

أ.د. عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

استقرتْ أحكام القضاء في اليمن على جواز التحكيم في بعض المسائل الجنائية التي يجوزُ التصالح فيها عملًا بقاعدة: (ما يجوز فيه التصالح يجوزُ التحكيم فيه)، مثل جرائم القتل والاعتداء على الأشخاص باعتبار أنّ الشريعة الإسلامية التي أخذ بها القانون اليمني تنظرُ إلى أنّ الحق الشخصي في تلك الجرائم غالبٌ على الحق العام، ومثل جرائم التهرب الضريبي والجمركي، وجرائم إصدار الشيك بدون رصيد، وغير ذلك، إلا أنه لا يجوز التحكيم في المسائل الجنائية الأخرى كدعاوى التزوير المتبادلة بين المحكمين، ولأهمية هذه المسألة فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 8/1/2014م في الطعن رقم (53696)، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم في أن طرفين قاما بتحكيم شخص للفصل في الخلاف القائم بينهما، حيث ادعى أحد الطرفين على الآخر بأنه قام بتزوير بطاقته الضريبية وضماناته الجمركية واستغلها في الاستيلاء على بضاعته كما قام بتزوير شيكات قام بموجبها بسحب مبالغ من رصيده في أحد البنوك، وقد توصل المحكم إلى الحكم بعدم صحة تلك الدعوى لعجز المدّعي عن إثباتها، فقام الطرف المدعي بتقديم دعوى بطلان حكم التحكيم أمام محكمة الاستئناف التي قضت بقبول دعوى البطلان وإبطال حكم التحكيم، وقد ورد ضمن أسباب الحكم الاستئنافي (فقد توصلت الشعبة إلى أن المحكم قد أخذ من الطرفين يمين الصدق بأنّ المدعي لا يدعي إلا بالصدق، وأن المدعَى عليه لا يرد على الدعوى إلا بالصدق، فالشعبة تجد أنّ قيام المحكم بأخذ الأيمان من المحتكمين ابتداءً قبل تقديم الدعوى، ونظره للخصومة يخالف المادة (29) تحكيم، التي تنصُّ على (أن يلتزم المحكم بوثيقة التحكيم ولا يجوز له أن يحكم بما لم يطلبه خصوم التحكيم)، كما وجدت الشعبة أنّ المدعي أمام المحكم قد تقدم بدعواه، ومفادها: قيام غريمه بتزوير بطاقته الضريبية وضماناته الجمركية وشيكاته، فهذه دعاوى جنائية تخالف الضمادة (5) تحكيم، التي تنص على (أنه لا يجوز التحكيم في سائر المسائل التي لا يجوز فيها الصلح وكل ما يتعلق بالنظام العام)، فقام الطرف المدعى عليه بالبطلان، وقام بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي، غير أنّ الدائرة الجزائية رفضت الطعن، وأقرتْ الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا فقد وجدت الدائرة (أن الحكم الاستئنافي قد قضى بأن حكم التحكيم قد جاء مخالفًا لنص المادة (5) تحكيم، التي تنص على أنه لا يجوز التحكيم في سائر المسائل التي لا يجوز فيها الصلح وكل ما يتعلق بالنظام العام). ولِما سبق، وعلى ضوء الأسباب الواردة في الحكم المطعون فيه يتبين أن الحكم المطعون فيه قد بُني على أساس من الواقع والقانون، ولذلك فهو جدير بإقراره لأنه موافقٌ لأحكام المواد (5 و29 و53) تحكيم، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: هلامية مفهوم النظام العام:

صرحت المادة (5) تحكيم على عدم جواز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، وسائر المسائل المتعلقة بالنظام العام، ومع أنّ النص صريح، إلا أنّ مفهوم النظام العام غير واضح، حيث يُجمع شُرّاح القانون على أنّ مفهوم النظام غامض، وأنه يستمد سموه وقدسيته من الغموض الذي يحيط به، ولذلك يتسم النظام العام بالنسبية، حيث يوثر في القوانين والمجالات المختلفة بنسب متفاوتة، فالنظام ليس مطلقًا، كما أنّ النظام العام متغير، يتغير بتغير الدول والثقافات والأيدلوجيات والأزمنة، كما أنّ من خصائص النظام العام العمومية، حيث إنّ النظام العام ليس قاصرًا على القانون أو مجال معيّن، فالنظام العام يعم الاقتصاد والسياسة والثقافة وغير

ذلك.

الوجه الثاني: النظام العام والمسائل الجنائية:

الأصل أنّ المسائل الجنائية من النظام العام؛ لأن الجرائم تمس النظام العام المتمثل بالأمن العام والسكينة العامة، حيث يجب أن تتولى النيابة العامة التحقيق والادعاء في كافة الجرائم كما ينبغي عليها تمثيل المجتمع عامة أمام المحاكم في مواجهة الجناة مرتكبي الجرائم كافة، باعتبار أنّ النيابة العامة تنوبُ عن المجتمع، كما أنّ الجرائم والمخالفات تُمثّل ضررًا وخطرًا على المجتمع بأسره، وعلى هذا الأساس فإنّ الأصل أنّ المسائل الجنائية كافة متعلقة بالنظام العام، ومع ذلك فإنه ترد بعض الاستثناءات على هذا الأصل كما سنرى.

الوجه الثالث: النظام العام والشريعة الإسلامية:

الشريعة الإسلامية هي النظام العام للمجتمع المسلم، فكل المأمورات والمحظورات التي تقررها الشريعة الإسلامية من النظام العام، الذي يجبُ على أفراد المجتمع احترامه، والالتزام به، وعدم مخالفته، ولذلك فإنّ فقهاء الشريعة الإسلامية قد أضافوا الحقوق العامة (النظام العام) إلى الله سبحانه تعالى؛ حتى يحترمُ الناس هذه الحقوق، فكل ما هو (حق الله) فهو حق للأمة (المجتمع)، وعلى هذه الخلفية استخلص الفقهاء الكليات الخمس أي تلك تتصلُ بحقوق المجتمع كله، وهذه الكليات هي حفظ (الدين والنفس والنسل والمال والعقل).. انظر (التشريع الجنائي الإسلامي، أ.د. عبدالمؤمن شجاع الدين، الطبعة العاشرة 2020م ص142). ومع أنّ الأصل في الشريعة أنّ الجرائم من النظام العام لمساسها بالكليات الخمس المشار إليها سابقًا، إلا أنّ الشريعة الإسلامية رجحت أن حقوق العباد تكون غالبة على الحقوق العامة في بعض الجرائم، ولذلك يجوز للأفراد أنْ يتصالحوا أو يحكموا في الجرائم حق العباد فيها غالب على حق الله، أو ما يسمى بالحق العام، ولذلك اتفق الفقهاء على جواز الصلح والتحكيم في الجرائم التي عقوبتها القصاص أو الأرش، ومع ذلك فإنّ الحق العام لا يسقط بالصلح أو التحكيم أو العفو، حيث يحق للدولة معاقبة الجاني في هذه الحالة، ولو سقط عنه القصاص أو الأرش.

الوجه الرابع: مدى جواز التحكيم في المسائل الجنائية في قانون التحكيم

اليمني:

قررتْ المادة (5) تحكيم عدم جواز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها التصالح وسائر المسائل المتعلقة بالنظام العام، وذلك يعني أنه يجوز التحكيم في المسائل التي يجوز فيها التصالح، ومقتضى ذلك جواز التحكيم في كافة المسائل الجنائية التي يجوز التصالح فيها مثل جرائم القتل والاعتداء وغيرها من الجرائم التي تُقرر القوانين المختلفة جواز التصالح فيها، مثل جرائم القتل والاعتداء والتهرب الضريبي والجمركي وغيرها؛ باعتبار أنّ الصلح وإن اختلف مع التحكيم، إلا أنهما يتفقان في أنهما وسائل رضائية تخضع لإرادة الأفراد للفصل في خصوماتهم بعيدًا عن القضاء؛ لأن القانون افترض أن تحكيم الأفراد أو تصالحهم في بعض الجرائم ليس فيه ضرر أو خطر على المجتمع.

الوجه الخامس: عدم جواز التحكيم في جرائم التزوير:

قضى الحكم الاستئنافي بعدم جواز التحكيم في جريمة التزوير، واستند الحكم في قضائه إلى المادة (5) تحكيم، التي تنص على أنه لا يجوز التحكيم في سائر المسائل المتعلقة بالنظام العام، وهو استدلال سديد لأنّ جريمة التزوير التي قضى فيها المحكم جريمة تزوير في محررات رسمية مثل البطاقة الضريبية والضمانات الجمركية والشيكات، فالتزوير في هذه المحررات يخل بالثقة العامة في المحررات الرسمية، ويسرِّب الشك إليها خلافًا لِما أراد القانون أن يصبغه على المحررات الرسمية من ثقة واطمئنان، إضافة إلى أن التزوير في المحررات الرسمية يتضمن الاعتداء على حقوق ومصالح الجهات الرسمية التي أصدرت تلك المحررات، أما تزوير الشيك وإنْ لم يكن محررًا رسميًّا، إلا أنّ القانون أصبغ عليه الرسمية بأن جعله أداة وفاء يجبُ على الأفراد قبولها في معاملاتهم، مثل الشيك في ذلك مثل النقود، وإنْ جاز التصالح في جريمة إصدار الشيك بدون رصيد إلا أنه من غير الجائز التصالح على تزوير الشيك ذاته، كما أنه من غير الجائز أيضًا التصالح في جرائم تزوير المحررات الرسمية، ومع أن التصالح لا يجوز بشأن جرائم تزوير المحررات الرسمية كالبطاقة الضريبية والضمانات والبيانات الجمركية مثلما قضى الحكم محل تعليقنا، إلا أنّ القانون أجاز التصالح في جرائم التهرب الضريبي والجمركي، وتبعًا لذلك يجوز التحكيم في هذه الجرائم عملاً بقاعدة (ما يجوز التصالح فيه يجوز التحكيم فيه).

الوجه السادس: يمين الصدق في الدعوى والإجابة عليها:

لاحظنا أنّ الحكم الاستئنافي قضى بعدم صحة يمين الصدق التي طلبها المحكم في البداية من المدعي والمدعى عليه، على أنْ يكونا صادقَين في الدعوى والإجابة، والواقع أنّ المشايخ والنقباء المحكمين في اليمن يطلبون من المدعي والمدعى عليه أنْ يحلفا على صحة الدعوى والإجابة حتى يفهم المحكمون الحقيقة، وحتى يتم الفصل في الخصومة بسرعة ويُسر، وحتى يطمئن المحكم أنّ ما يقوله أو يقدمه الخصوم حقائق يعتمدُ عليها المحكم في حكمه، وقد شاهدتُ شخصيًّا في مجالس تحكيم كثيرة أنّ بعض المحكمين يطلبون من الخصوم في أول جلسة تحكيم أداء هذه اليمين قبل أنْ يقول الخصوم أو يقدموا أيّ شيء، واليمين في هذه الحالة ليست يمين الاستيثاق أو يمين صحة الدعوى التي يحلفها المدعي بعد تقديم الدعوى، ولذلك فإننا من وجهة نظرنا نرى أنّ يمين الصدق على صحة الدعوى والإجابة ليس فيها أيّ مخالفة للقانون أو الشريعة، والله أعلم.


 

تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 19-إبريل-2024 الساعة: 09:52 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.awraqpress.net/portal/news-24946.htm